إنسان بعمر 250 سنة | الظّروف التّاريخيّة لصلح الإمام الحسن (ع) 01

كان عهد الإمام المجتبى عليه السلام وواقعة صلحه مع معاوية ـ ما سُمّي بالصّلح ـ حدثاً مصيريّاً وفريداً على امتداد مسير الثورة الإسلاميّة في العهد الأوّل. فليس لدينا نظير لهذه الحادثة. وهنا أُقدّم إيضاحًا مقتضبًا لهذه العبارة ثمّ أدخل إلى أصل المطلب.

 

إنّ ثورة الإسلام أي الفكر الإسلاميّ والأمانة الّتي تحمل عنوان الإسلام والّتي أرسلها الله سبحانه إلى العالمين، كانت في عهدها الأوّل عبارة عن نهضةٍ واحدة وتحرّكٍ واحد، جاء في إطار حركة جهاديّة ونهضة ثوريّة عملاقة. وما إن أعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الفكر في مكّة حتّى حشد أعداء الفكر التّوحيديّ وأعداء الإسلام صفوفهم للوقوف بوجهه والحيلولة دون أن يشقّ هذا الفكر طريقه، فعمد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى تنظيم هذه النهضة بتعبئة قواه من العناصر المؤمنة صانعًا ملحمةً جهاديّةً في غاية الفطنة والقوّة والتقدّم داخل مكّة استمرّت إحدى عشرة سنة، فكانت تلك المرحلة الأولى.

 

وبعد ثلاث عشرة سنة، ومن خلال تعاليم النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، والشّعارات الّتي رفعها والتّنظيم الّذي اعتمده والتّضحيات الّتي بُذلت ومجموع العوامل التي توفّرت، تحوّل هذا الفكر إلى حكومة ونظام، وتبدّل إلى نظامٍ سياسيّ وحياتيّ لأمّة بأكملها، وكان ذلك عندما قدم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وجعل منها قاعدة له وبسط فيها الحكومة الإسلاميّة، فتحوّل الإسلام من نهضة إلى حكومة، وهذه هي المرحلة الثّانية.

 

استمرّت هذه المسيرة على مدى عشر سنوات من حياة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، والفترة الّتي تلتها من عهد الخلفاء الأربعة، ومن ثمّ إلى زمان الإمام المجتبى عليه الصّلاة والسّلام، وخلافته الّتي استمرّت ما يناهز ستّة أشهر، برز خلالها الإسلام على شكل حكومة. وكان كلّ شيء يتّخذ هيئة النّظام الاجتماعيّ، أي الحكومة والجيش والعمل السياسيّ والثقافيّ والقضائيّ وتنظيم العلاقات الاقتصادية للأمّة، وكان قابلًا للاتّساع، ولو قُدّر له أن يمضي قُدُمًا على هذا النّحو لكان قد عمّ المعمورة بأكملها، أي لكان الإسلام أثبت أنّ لديه هذه القابليّة.

 

لقد تنامى التيّار المعارض في زمن الإمام الحسن عليه السلام إلى أن استطاع أن يبرز كواحدٍ من العراقيل. بالطبّع، إنّ هذا التيّار المعارض لم يظهر إلى الوجود في عهد الإمام المجتبى عليه السلام، بل في السّنوات التي سبقته. فلو أراد شخصٌ أن يبتعد قليلًا عن الجوانب العقائدية ويعتمد فقط على الشّواهد التاريخيّة، لعلّه يستطيع الادّعاء أنّ هذا التيّار لم يظهر إلى الوجود حتّى في العهد الإسلاميّ، وإنّما كان استمرارًا لما شهدته مرحلة نهضة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أي مرحلة مكّة.

 

بعد ذلك، وصلت الخلافة في عهد عثمان - الّذي كان من بني أميّة ـ إلى أيدي هؤلاء القوم، وأبو سفيان - الذي كان أعمى يومها - كان يجلس بعيدًا مع أصدقائه. فسأل: من هم الحاضرون في الجلسة؟ فجاءه الرّد: فلانٌ وفلانٌ وفلان، فلمّا اطمأنّ بأنّ الحاضرين جميعهم من قومه، ولا يوجد شخصٌ غريب بينهم، خاطبهم قائلاً: "تلقّفوها تلقّف الكرة" ، أي تناولوا الحكومة كتناول الكرة ولا تدعوها تفلت منكم. وقد تناقلت تواريخ الشّيعة والسنّة هذه الحادثة. فهذه ليست مسألة عقائديّة، ونحن لا نتناولها وفق رؤية عقائديّة، ولا أُحبّذ أن أتناولها من خلال هذه الرؤية، بل إنّني أُثيرها من بعدها التاريخيّ فقط.

 

بالطّبع، كان أبو سفيان في ذلك الوقت مسلمًا وقد أسلم، غاية الأمر، كان إسلام ما بعد الفتح أو على شرُف الفتح، عندما لم يكن الإسلام يعيش زمن الغربة والضّعف، فكان إسلامه بعد بلوغ الإسلام أوج قدرته. لقد بلغ هذا التيّار ذروته في عهد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وبرز متجسّدًا بمعاوية بن أبي سفيان وهو يقف بوجه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. فباشر هذا التيّار معارضته سادًّا الطّريق بوجه الحكومة الإسلاميّة - أي الإسلام بطابعه الحكوميّ - مفتعلًا المشاكل حتّى تحوّل إلى عائق أمام تقدّم تيّار الحكومة الإسلاميّة عمليًّا.

 

لقد ذكرنا مرارًا فيما يتعلّق بصلح الإمام الحسن عليه السلام، وما نصّت عليه المصنّفات والكتب أيضًا، عدم قدرة من كان في نفس موقف الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وفي مثل ظروفه، إلّا أن يقوم بمثل ما قام به الإمام الحسن عليه السلام، بما في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام نفسه، ولا يستطيع أحدٌ أن يقول إنّ الجانب الفلانيّ من عمل الإمام عليه السلام هو مثارٌ للتّشكيك. كلّا، ففعله عليه السلام كان مطابقًا للاستدلال المنطقيّ الّذي لا يقبل التخلّف.


من هو الأكثر ثوريّة من بين آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ومن الّذي فاقهم في اصطباغ حياته بصبغة الشّهادة وفاقهم حميّةً للمحافظة على الدّين ومواجهة العدوّ؟ إنّه الحسين بن عليّ عليه السلام، وهو عليه السلام قد شارك الإمام الحسن عليه السلام في هذا الصّلح، فلم يعقد الإمام الحسن الصّلح وحده بل عقداه معًا، غاية الأمر أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان المتقدّم يتبعه الإمام الحسين في ذلك. كان الإمام الحسين عليه السلام أحد الذائدين عن مبدأ صلح الإمام الحسن عليه السلام. وعندما بدر اعتراضٌ من أحد الأنصار المقرّبين ــ من هؤلاء المتحمّسين الثائرين ــ على ما فعله الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ردّ عليه الإمام الحسين عليه السلام، "وغمز الحسين حجراً" ، وليس هنالك من يقول: لو كان الإمام الحسين مكان الإمام الحسن لما وقّع الصّلح، كلا، فلقد كان الإمام الحسين إلى جانب الإمام الحسن ووقّع الصلح، ولو لم يكن الإمام الحسن عليه السلام وكان الإمام الحسين عليه السلام وحيدًا في تلك الظّروف لحدث ما حدث ووقع الصلح.
 


المصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة، للامام الخامنئي، الفصل الخامس : الإمام الحسن (ع)

2025-04-21 | 69 قراءة