قصة الخضر (ع).. الرجل العالم

الخضر الرجل العالم
 
يقول الله تعالى وهو يحكي قصة ذلك العالم الجليل الذي طلبه نبي الله موسى (عليه السلام) ليتعلم منه: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً (64) فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً (74) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً (82) ﴾ [1].

[1] - سورة الكهف: الآيات 60- 98.

الخضر كان نبياً من الأنبياء وقد عاصر نبي الله موسى (عليه السلام)، وقد جاء في الروايات أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، وقد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير وتكاثرت القصص والحكايات في رؤيته [1]. لقد تحدث القرآن الكريم عن رجل عالم من دون أن يسمّيه بالخضر، وقد عبّر عن معلّم موسى (عليه السلام) بقوله: ﴿ عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ [2]. والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة، لذا فإنّه غالباً ما يوصف بالرجل العالم.
أمّا الرّوايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرّفت هذا الرجل باسم (الخضر)، ومن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان)، أمّا الخضر فهو لقب له، حيث أنّه أينما كان يطأ الأرض فإنّ الأرض كانت تخضرّ تحت قدميه.
البعض احتمل أنّ اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس)، ومن هنا ظهرت فكرة أن إلياس والخضر هما اسمان لشخص واحد. ولكن المشهور والمعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.
وطبيعي أن نقول: إنّ اسم الرجل العالم أيّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالما إلهيا، شملته الرحمة الإلهية الخاصّة، وكان مكلّفا بالباطن والنظام التكويني للعالم، ويعرف بعض الأسرار، وكان معلّم موسى بن عمران (عليه السلام) بالرغم من أنّ موسى (عليه السلام) كان أفضل منه من بعض الجوانب.
وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا. ففي المجلد الأوّل من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنّ هذا الرجل لم يكن نبيّا، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و(آصف بن برخيا) [3].
عن جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «إن الخضر كان نبيا مرسلا، بعثه الله تبارك وتعالى إلى قومه، فدعاهم إلى توحيده، والإقرار بأنبيائه ورسله وكتبه، وكانت آيته أنه كان لا يجلس على خشبة يابسة ولا أرض بيضاء إلا أزهرت خضراء، وإنما سمي خضرا لذلك، وكان اسمه تاليا بن ملكان بن عابر بن أرفخشد بن سام بن نوح (عليه السلام)، وإن موسى لما كلمه الله تكليما، وأنزل عليه التوراة وكتب له في الألواح من كل شي‏ء موعظة وتفصيلا لكل شي‏ء، وجعل آيته في يده وفي عصاه، وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وفلق البحر، وأغرق الله عزَّ وجلّ فرعون وجنوده، وعملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى أن الله عزَّ وجل خلق خلقا أعلم مني. فأوحى الله عزَّ وجل إلى جبرائيل (عليه السلام): يا جبرائيل، أدرك عبدي موسى قبل أن يهلك، وقل: له: إن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه، فهبط جبرائيل (عليه السلام) على موسى (عليه السلام) بما أمره به ربه عز وجل، فعلم موسى (عليه السلام) أن ذلك لما حدثته به نفسه» [4].
إنّ قصّة موسى والخضر (عليهما السلام) لها أبعاد عجيبة. ففي القصّة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّا من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلم على يديه، ونرى أنّ المعلم يقوم بتعليمه دروسا يكون الواحد منها أعجب من الآخر. ثمّ إنّ هذه القصّة تنطوي- كما سنرى- على ملاحظات مهمّة جدّا.
 
قصة الخضر مع موسى (عليهما السلام)
 
 
في أوّل آية نقرأ قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾ [5].
إنّ المعنيّ بالآية هو بلا شك موسى بن عمران (عليه السلام) النّبي المعروف من أولي العزم، بالرغم ممّا احتمله بعض المفسّرين من أنّ موسى المذكور في الآية هو غير موسى بن عمران (عليه السلام)، وسوف نرى - فيما بعد - أنّ اعتماد هذا الرأي كان بسبب عدم استطاعتهم حل بعض الإشكالات الواردة في القصّة، في حين أنّه كلما ورد اسم (موسى) في القرآن فالمراد به موسى بن عمران [6].
أمّا المعني من (فتاه) فهو كما يقول أكثر المفسّرين، وكما تشير إلى ذلك العديد من الرّوايات: يوشع بن نون، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني إسرائيل. و(مجمع البحرين) هو محل التقاء البحرين، وهناك كلام كثير بين المفسّرين عن اسم هذين البحرين، ولكن - بشكل عام - يمكن إجمال الحديث بثلاثة احتمالات هي:
أوّلاً: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» (إذا المعروف أنّ البحر الأحمر يتفرع شمالا إلى فرعين: فرع نحو الشمال الشرقي حيث يشكّل خليج العقبة، والثّاني نحو الشمال الغربي ويسمى خليج السويس، وهذان الخليجان يرتبطان جنوبا ويتصلان بالبحر الأحمر).
ثانياً: المقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال المحيط الهندي بالبحر الأحمر في منطقة «باب المندب».
ثالثاً: محل اتصال البحر المتوسط (الذي يسمّى - أيضا - ببحر الروم والبحر الأبيض) مع المحيط الأطلسي، يعني نفس المكان الذي يطلق عليه اسم (مضيق جبل طارق) قرب مدينة «طنجة».
ويستبعد صاحب تفسير الأمثل الاحتمال الثاني والثالث، ويبقى الاحتمال الأوّل هو الأقرب من حيث قربه إلى مكان موسى (عليه السلام). وما يرجح هذا الرأي هو ما يستفاد من الآيات - بشكل عام - من أنّ موسى (عليه السلام) لم يسلك طريقا طويلا بالرغم من أنّه كان مستعدا للسفر إلى أي مكان لأجل الوصول إلى مقصوده، وفي بعض الرّوايات إشارة إلى هذا المعنى أيضا.
كلمة «حُقُب» تعني المدّة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاما، وغرض موسى (عليه السلام) من هذه الكلمة، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.
ومن مجموع ما ذكر أعلاه يتبيّن لنا أن موسى (عليه السلام) كان يبحث عن شي‏ء مهم، وقد أقام عزمه ورسّخ تصميمه للعثور على مقصوده، وعدم التهاون في ذلك إطلاقا، لأن الشيء الذي كان موسى (عليه السلام) مأمورا بالبحث عنه له أثر كبير في مستقبله، وبالعثور عليه سوف يُفتتح فصل جديد في حياته.
نعم، إنّه (عليه السلام) كان يبحث عن عالم يزيل الحجب من أمام عينيه ويريه حقائق جديدة، ويفتح باب العلوم أمامه، وسنعرف سريعا أنّ موسى (عليه السلام) كان يملك علامة للعثور على محل هذا العالم الكبير، وكان (عليه السلام) يتحرك باتجاه تلك العلامة [7].
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ أي فانطلقا يمشيان، فلما بلغا مجمع بينهما، وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده، نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه، فكان ذلك للحوت سربا [8]، ولموسى وفتاه عجبا.
ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة، وأما كون ماء البحر صار كالقنطرة عليه أو كأي وضع آخر، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع.
روي أن موسى (عليه السلام) أمر بحمل حوت مملح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو الموضع المقصود، فأخذ حوتا وجعله في مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين، فناما، واضطرب الحوت في المكتل وخرج منه وسقط في البحر.
روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله في مكتل، وقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فبينما هما في ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره [9].
هناك كلام كثير بين المفسّرين عن نوعية السمك الذي كان معدا للغذاء ظاهرا هل كانت سمكّة مشوية، أو مملّحة أو سمكة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل إعجازي، وقفزت إلى الماء وغاصت فيه، هناك كلام كثير بين المفسّرين. وفي بعض كتب التّفسير نرى أنّ هناك حديثا عن عين تهب الحياة، وأنّ السمكة عندما أصابها مقدار من ماء تلك العين عادت إليها الحياة.
وهناك احتمال آخر وهو أن السمكة كانت حيّة، بمعنى أنّها لم تكن قد ماتت بالكامل، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.
وفي تتمة القصّة، نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى (عليه السلام) أنّه قد جلب معه طعاما، وعند ذلك قال لصاحبه [10]: ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ﴾.
وفي هذه الأثناء قال له صاحبه: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ﴾. أي قال له فتاه: أرأيت ما حدث لي حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إني نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حيّ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب، وما أنساني ذكره إلا الشيطان.
﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾: قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه علامة الفوز بما نقصد، فرجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما، فوجدا عند الصخرة في مجمع البحرين عبدا صالحا من عباد الله، وهو الخضر في رأي الأكثرين، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلّم عليه موسى، وكان قد علّمه الله من لدنه علما من غير وساطة معلم بشر: ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾. استخدام عبارة ﴿ عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا ﴾ فهي تبيّن أن أفضل فخر للإنسان هو أن يكون عبدا حقيقيا للخالق جلّ وعلا، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سببا في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.
كما أنّ استخدام عبارة: ﴿ مِن لَّدُنَّا ﴾ تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علما عاديا، بل كان يعرف جزءا من أسرار هذا العالم، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.
أمّا استخدام ﴿ عِلْماً ﴾ بصيغة النكرة فهو للتعظيم، ويتبيّن من ذلك أنّ ذلك الرجل العالم قد حصل من علمه على فوائد عظيمة.
أمّا ما هو المقصود من عبارة: ﴿ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ فقد ذكر المفسّرون تفاسير مختلفة، فقال بعضهم: إنّها إشارة إلى مقام النبوة، والبعض الآخر اعتبرها إشارة للعمر الطويل، ولكن يحتمل أن يكون المقصود هو الاستعداد الكبير والروح الواسعة، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادرا على استقبال العلم الإلهي [11].
في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾. نستفيد من عبارة «رشدا» أنّ العلم ليس هدفا، بل هو وسيلة للعثور على طريق الخير والهداية والصلاح، وأنّ هذا العلم يجب أن يتعلّم، وأن يفتخر به.
في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم (عليه السلام) قالَ: ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾. ثمّ بيّن سبب ذلك مباشرة وقال: ﴿ وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى‏ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾. وكما سنرى فيما بعد، فإنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخص أسرار وبواطن الأحداث، في حين أنّ موسى (عليه السلام) لم يكن مأمورا بمعرفة البواطن، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير، وفي مثل هذه الموارد يحدث كثيرا أن يكون ظاهر الحوادث يختلف تمام الاختلاف عن باطنها، فقد يكون الظاهر قبيحا أو غير هادف في حين أنّ الباطن مفيد ومقدّس وهادف لأقصى غاية. في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالاعتراض وحتى بالتشاجر.
ولكن الأستاذ العالم والخبير بالأسرار بقي ينظر إلى بواطن الأعمال، واستمر بعمله بهدوء، ولم يعر أي أهمية إلى اعتراضات موسى وصيحاته، بل كان في انتظار الفرصة المناسبة ليكشف عن حقيقة الأمر، إلّا أنّ التلميذ كان مستمرا في الإلحاح، ولكنّه ندم حين توضحت وانكشفت له الأسرار.
قد يكون موسى (عليه السلام) اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير، لذا فقد تعهد بأن يصبر على جميع الحوادث وقال: ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً ﴾.
مرّة أخرى كشف موسى (عليه السلام) عن قمة أدبه في هذه العبارة، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم: إنّي صابر، بل قال: إن شاء الله ستجدني صابرا.
ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها، ليس بالأمر الهيّن، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى (عليه السلام) أن يتعهد له مرّة أخرى، وحذّره: ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾. وقد أعطى موسى العهد مجددا وانطلق مع العالم الأستاذ [12].
إن العالم (عليه السلام) عندما اشترط على موسى (عليه السلام) هذا الشرط، فإنه كان يشير إلى أن على العلماء أن يضبطوا أمرهم مع المتعلم منذ البداية، على أساس أن العالم هو الذي يحدد المنهج.
فلننظر ما حدث، قالَ له الخضر: ﴿ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾ فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر، فقال أرباب السفينة: نحمل هؤلاء الثلاثة، فإنهم قوم صالحون فحملوهم، فلما جنحت السفينة في البحر، قام الخضر (عليه السلام) إلى جوانب السفينة فكسرها وحشاها بالخرق والطين، فغضب موسى (عليه السلام) غضبا شديدا وقال للخضر (عليه السلام): ﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ فقال له الخضر (عليه السلام): ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾، قال موسى: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾. فخرجوا من السفينة فنظر الخضر (عليه السلام) إلى غلام يلعب بين الصبيان حسن الوجه كأنه قطعة قمر وفي أذنيه درتان، فتأمله الخضر (عليه السلام)، ثم أخذه فقتله، فوثب موسى على الخضر (عليهما السلام) وجلد به الأرض: ﴿ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾، فقال الخضر (عليه السلام): ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) ﴾ قال موسى ﴿ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً (76) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ﴾، وكان وقت العشي والقرية تسمى الناصرة وإليها ينسب النصارى ولم يضيفوا أحدا قط، ولم يطعموا غريبا، فاستطعموهم فلم يطعموهم، ولم يضيفوهم، فنظر الخضر (عليه السلام) إلى حائط قد زال يريد أن يتهاوى ويتهدم، فوضع الخضر (عليه السلام) يده عليه وقال: قم بإذن الله فقام، فقال موسى (عليه السلام): لم ينبغ أن تضم الجدار حتى يطعمونا ويأوونا، وهو قوله عز وجل: ﴿ لَو شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ فقال له الخضر (عليه السلام): ﴿ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِك ﴾ [13].
جاء في الدر المنثور: سأل موسى ربه فقال رب أي عبادك أحب إليك، قال الذي يذكرني ولا ينساني، قال فأي عبادك أقضى، قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال فأي عبادك أعلم، قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال وقد كان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، قال رب فهل أحد أعلم منى قال نعم قال فأين هو قيل له عند الصخرة التي عندها العين، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله، وانتهى موسى إليه عند الصخرة، فسلم كل واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تصحبني، قال: إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني فلا تسألني عن شيء، حتى أحدث لك منه ذكرا، فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين، وليس في البحر مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث الله الخطاف فجعل يستقى منه بمنقاره، فقال لموسى كم ترى هذا الخطاف رزأ بمنقاره من الماء، قال: ما أقل ما رزأ، قال فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، فكان قول موسى في الجدار لنفسه شيئا من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله عزَّ وجل [14].
ثم أن الرجل العالم قال ﴿ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾.
كانت هذه لحظة فاصلة، فلم يعد لموسى من عذر، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال، وإلى هنا كان موسى أمام مفاجآت متوالية لا يعلم لها سرا، وموقفنا منها كموقف موسى، بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة، فلم ينبئنا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا، وما قيمة الاسم هنا؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها. وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها، فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود، فيمضي في طريقه ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا. فيجد هذا الرجل هناك. وكاد لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى... كل الجو غامض مجهول، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن [15].
ثم يأخذ السر في التجلي بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر (عليهما السلام) أمرا حتميا، وكان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة، والتي يمكن أن تكون مفتاحا للعديد من المسائل، وجوابا لكثير من الأسئلة. ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾.
وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشينا سيئا، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب، وكان هذا الملك يأخذ السفن من أصحابها عنوة وبالقوة، ويترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها، إذا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.
وكلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقا، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.
ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنّ «المسكين» ليس هو الشخص الذي لا يملك شيئا مطلقا، بل هي وصف يطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنّها لا تفي بحاجاتهم. ويحتمل أيضا أن يكون السبب في إطلاق وصف (المساكين) عليهم ليس بسبب الفقر المالي، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب، كما وأنّه يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغويا، والذي يعني السكون والضعف.
في نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «مسكين ابن آدم.. تؤلمه البقة، وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة» [16].
بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول: ﴿ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾.
تحتمل مجموعة من المفسّرين أنّ المقصود من الآية ليس ما يتبيّن من ظاهرها من أنّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببا في انحراف أبويه، وإنّما المقصود أنّه بسبب من طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيرا، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة، في كل الأحوال، فإنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد الحياة.
ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله: ﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾. ففي روايات عديدة نقرأ: «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّا» [17].
في آخر آية من الآيات التي نبحثها، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾. وأنا كنت مأمورا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضا للخطر [18].
قيل لم يكن ذلك الكنز بذهب ولا فضة، ولكن كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: عجب لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجب لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، عجب لمن أيقن أن البعث حق كيف يظلم، عجب لمن يرى الدنيا وتصرف أهلها حالا بعد حال كيف يطمئن إليها.
وكان أبوهما صالحا، وكان بينهما وبين هذا الأب الصالح سبعون أبا، فحفظهما الله بصلاحه، ثم قال: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ ثم إن الخضر (عليه السلام) تبرأ من الإبانة في آخر القصص، ونسب الإرادة كلها إلى الله تعالى، ذكره في ذلك لأنه لم يكن بقي شي‏ء مما فعله فيخبر به بعد ويصير موسى (عليه السلام) به مخبرا ومصغيا إلى كلامه تابعا له، فتجرد من الإبانة والإرادة تجرد العبد المخلص، ثم صار متنصلا مما أتاه من نسبة الإبانة في أول القصة، ومن ادعائه الاشتراك في ثاني القصة، فقال: ﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ [19]. وفي خاتمة الحديث، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة، أو شك لدى موسى (عليه السلام)، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقا لمخطط وتوجيه أعلى خاص، قال العالم: ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ بل بأمر من الله، وذلك سر ما لم يستطع موسى (عليه السلام) صبرا، إذ قال: ﴿ ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ﴾.
 
 
مهمة الخضر
 
هل كانت مهمّة الخضر في إطار النظام التشريعي أم التكويني!؟
إنّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهام!.
والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إتلاف جزء من أموال شخص بدون إجازته بذريعة أنّ هناك غاصبا يريد أن يصادرها؟ وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟ ثمّ هل هناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟
لقد رأينا في سياق القصّة القرآنية أنّ موسى اعترض على الرجل العالم، ولكنّه بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأمور عاد واقتنع. أمّا نحن فأمامنا طريقان للإجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق الأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة من المفسّرين بسلوك هذا الطريق.
فالحادثة الأولى اعتبروها منطبقة مع قانون (الأهم والمهم)، وقالوا بأنّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتما من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق، وبعبارة أخرى، فإنّ الخضر قام هنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنّه كان يمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة، (أي أنّ الخضر قد حصل من وجهة الأحكام والقواعد الشرعية على إذن الفحوى).
وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنّ الفتى كان بالغا وأنّه كان مرتدا أو مفسدا، وبسبب أعماله الفعلية فإنّه من الجائز أن يقتل. وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإنّه بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإنّ قتله طبقا للموازين الشرعية، وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية، يكون جائزا.
أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الأشخاص فيما لو قاموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجرا على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام به الخضر، وقد لا تصل هذه الأفعال إلى حدّ الوجوب، إلّا أنّها تعتبر- حتما - من السلوك الحسن، بل قد يقال من الوجهة الفقهية أنّ الإيثار والتضحية في بعض الموارد من الأمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإذا كانت التوضيحات الآنفة مقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إلّا أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم به من أعمال في المستقبل، وليس أعماله الفعلية.
أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضا لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا - ومن الوجهة الفقهية - أن نتلف جزءا من أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لإنقاذها من خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنّه سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل... ترى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟! وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقا آخر:
إنّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني، والنظام التشريعي»، وبالرغم من أنّ هذين النظامين متناسقان فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنهما قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات، على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم، حتى يتبيّن الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.
والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟
نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى به يعقوب (عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إلى المساكين، أو ما ابتلى به يونس (عليه السلام) بسبب تركه الأولى من بعض الأمور ولو لفترة قصيرة... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟
ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر - مثلا - يخسر هذه الأموال، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربّه على نعمة السلامة...
والسؤال هنا: هل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب النعمة من الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟
إنّ أمثال هذه الأمور كثيرة للغاية، وهي تظهر - بشكل عام - أنّ عالم الوجود، وخصوصا خلق الإنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضع الله تعالى مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.
ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنّف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية، فعلى سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنّه يلائم النظام الأحسن).
والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.
ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنّ أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل، كما أنّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.
وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنّ خروجي من البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني منها.
بعبارة أخرى: إنّ مجموعة من أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن، بينما المجموعة الأخرى مكلّفون بالظواهر، والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضا.
صحيح أنّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال، وصحيح أنّ البرنامجين متناسقان من حيث القواعد الكلية، إلّا أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين، بل يجب أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلّ وعلا، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا، ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ بل إنّي خطوت الخطوات وفقا للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي، وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.
وسبب عدم تحمّل موسى (عليه السلام) لأعمال الخضر يعود إلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم، لذا فقد كان موسى (عليه السلام) يبادر إلى الاعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة، بينما كان الخضر مستمرا في طريقه ببرودة أعصاب، لأنّ وظيفة كل من هذين المبعوثين الإلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيا، لذلك لم يستطيعا العيش سوية، لذا قال الخضر لموسى (عليهما السلام): ﴿ هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ ﴾ [20].
 
القصة في مصادر اليهود
 
 
في بعض كتب علماء اليهود التي تمّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي قصّة تشبه إلى حد كبير حادثة موسى (عليه السلام) وعالم زمانه (الخضر)، بالرغم من أنّها تذكر أنّ أبطال تلك القصّة هما (إلياس) و(يوشع بن لاوي) وهما من مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي، وتختلف من خلال عدّة أمور عن قصّة موسى والخضر، والقصة هذه هي التالي:
يطلب يوشع من الله أن يلقى إلياس، وبمجرّد أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء إلياس فإنّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار، فيجيبه إلياس: إنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك، إلّا أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له إلياس مشترطا عليه أن لا يسأل عن أيّ شي‏ء يراه، وإذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنّ إلياس حرّ في الانفصال عنه وتركه، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع وإلياس في السفر.
وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادتهما، وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها، فيأمر إلياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصّرف، ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل، فيذكّره إلياس بما اتّفقا عليه ويهدّده بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.
ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص ثريّ، وينهض إلياس إلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه، وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم إلياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة، وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم إلياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى الرئاسة، وبالتالي فإنّ يوشع بن لاوي لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقائع الأربع، ويجيبه إلياس: بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإنّ تلك المرأة تموت، ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم، وأمّا إنّه قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إلى الرئاسة جميعا، فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختلّ النظام عندهم، على العكس من أهل القرية الرّابعة فإنّهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص واحد فإنّ أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام.
ويجب عدم التوهّم حيث نرى بأنّ القصتين هما قصة واحدة، بل إنّ غرضنا الإشارة إلى أنّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسى (عليه السلام) والخضر، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل [21].
 
دروس وعبر
 
 
هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصّة:
أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه، بحيث رأينا أنّ نبيّاً من أولي العزم مثل موسى (عليه السلام) يسلك هذا الطريق الطويل، وقد بذل ما بذل لتحقيقه، وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.
ب: جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى: ﴿ عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾.
ج: يجب تعلم العلم للعمل، كما يقول موسى (عليه السلام) لصاحبه: ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي، فأنا لا أطلب العلم لنفسه، بل للوصول إلى الهدف.
د: يجب عدم الاستعجال في الأعمال، إذ أن العديد من الأمور تحتاج إلى الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة، ولهذا السبب، فإنّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى (عليه السلام) في الفرصة المناسبة.
هـ: الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الأخرى التي نتعلمها من القصة، إذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. فما أكثر الحوادث التي نكرهها، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية، والقرآن يصرّح بمضمون هذه الحقيقة في قوله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [22].
إنّ المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس عندما تهجم عليه الحوادث، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدّث والفقيه المعروف زرارة بن أعين، ويقول فيه عبد الله: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «اقرأ مني على والدك السلام، وقل له: إنّي إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك، فإنّ الناس والعدو يسارعون إلى كلّ من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقرّبه، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منّا، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن، فإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت منّا، وبميلك إلينا، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك، ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك. يقول الله عزّ وجلّ: ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ هذا التنزيل من عند الله، صالحة، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك، ولا تعطب على يديه، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله، فافهم المثل يرحمك الله، فإنّك والله أحبّ الناس إليّ، وأحبّ أصحاب أبي حياً وميتا، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصبا، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حياً ورحمته ورضوانه عليك ميتا» [23].
و: من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها، فعندما تخلّف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم، عرف أنّه لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة، وبالرغم من أنّ فراق هذا الأستاذ كان أمرا صعبا على موسى (عليه السلام)، إلّا أنّه (عليه السلام) لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق، وفارقه عن إخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه الصحبة القصيرة.
يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا، إذ عليه عندما يختبر موضوعا ما عدّة مرّات، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.
ز: تأثير إيمان الآباء على الأبناء: لقد تحمّل الخضر مسؤولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم، بمعنى أنّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة الأب والتزامه ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضا.
نقرأ في بعض الرّوايات أنّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا، (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره) [24]. وإنّ من علامات صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية، ومن الحكم لأبنائه.
ح: قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين: عندما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر، قد يحرفهم به عن الطريق الإلهي، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا، فإنّ الرّوايات الإسلامية تربط بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما).
وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة، إذا كان الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته، ترى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟
ط: الناس أعداء ما جهلوا: فقد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا، إلّا أنّنا نتصوره عدوّا لنا، لأنّنا لا نعرف بواطن الأمور، ونتسرع ونفقد الصبر، خصوصا إزاء الأحداث والأمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما، من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علما من الأحداث والقضايا، إلّا أنّ الدرس المستفاد من القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.
ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نقرأ قوله (عليه السلام): «الناس أعداء ما جهلوا» [25]، لذا فإنّه كلّما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإنّ تعامله يكون أكثر منطقيا، وبعبارة أخرى إنّ أساس الصبر هو الوعي.
نعم، لقد كان لانزعاج موسى (عليه السلام) ما يبرره، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه، بحيث تعرض القسم الأعظم للشريعة إلى الخطر، ففي الحادثة الأولى: تعرضت مصونية أموال الناس إلى الخطر، وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إلى خطر، أمّا في الثّالثة: فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس، لذلك فقد اعترض ونسي عهده الذي قطعه لصاحبه العالم، ولكن ما إن اطلّع على بواطن الأمور هدأ وكفّ عن الاعتراض، وهذا الأمر يدل على أنّ عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحدّ ذاته.
ي: أدب التلميذ والأستاذ: ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى (عليه السلام) والرجل الربّاني العالم، فمن ذلك مثلا:
1- اعتبار موسى (عليه السلام) لنفسه تابعا للخضر قوله: ﴿ أَتَّبِعُكَ ﴾.
2- لقد أعلن موسى (عليه السلام) هذا الاتباع على شكل استئذان فقال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾.
3- إقراره (عليه السلام) بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال: ﴿ عَلَى‏ أَن تُعَلِّمَنِ ﴾.
4- وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا، وهو يطلب جانبا من هذا العلم، فقال: ﴿ مِمَّ ﴾.
5- يصف علم أستاذه بأنّه علم إلهي فيقول: ﴿ عُلِّمْتَ ﴾.
6- يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقال (عليه السلام): ﴿ رُشْداً ﴾.
7- يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي، بأنّ الله قد تلطّف عليك وعلّمك، فتلطّف أنت عليّ، وحيث قال (عليه السلام): ﴿ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ﴾.
8- إنّ جملة ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾ تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ، وفي اتباعه، إذ ليس من وظيفة الأستاذ إتباع تلميذه إلّا في حالات وموارد خاصّة.
9- برغم ما كان يتمتع موسى (عليه السلام) بمنصب كبير (حيث كان نبيّا من أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلّا أنّه تواضع، وهذا يعني أنّك ومهما كنت وفي أي مقام أصبحت، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.
10- إنّ موسى (عليه السلام) لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه، بل قال: ﴿ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِراً ﴾ وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء الخالق جلّ وعلا، واتجاه الأستاذ أيضا، حتى إذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.
ضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنّ العالم الرباني قد استخدم إزاء موسى (عليه السلام) منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية، فعندما كان موسى (عليه السلام) ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه، يجيبه الأستاذ بهدوء وروية، ولكن على شكل استفهام: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ [26].
 

[1] - الميزان في تفسير القرآن، ج‏13، ص: 339.
[2] - سورة الكهف: آية 65.
[3] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 335.
[4] - البرهان في تفسير القرآن، ج‏3، ص: 645.
[5] - سورة الكهف: آية 66.
[6] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 311.
[7] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 311- 313.
[8] - (سرب) على وزن (جرب) كما يقول الراغب في مفرداته، وهي تعني السير في الطريق المنحدر، و(سرب) على وزن (حرب) تعني الطريق المنحدر.
[9] - تفسير المراغي، ج‏15، ص: 175- 176.
[10] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص:313- 314.
[11] - المصدر السابق، ج‏9، ص:315- 316.
[12] - المصدر السابق، ج‏9، ص:317- 318.
[13] - تفسير نور الثقلين، ج‏3، ص: 282- 283.
[14] - الدر المنثور في تفسير المأثور، ج‏4، ص: 234.
[15] - في ظلال القرآن، ج‏4، ص:2280- 2281.
[16] - نهج البلاغة، الكلمات القصار الجملة رقم 419.
[17] - نور الثقلين، ج 3، ص 286- 287.
[18] - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 327- 330.
[19] - البرهان في تفسير القرآن، ج‏3، ص: 647.
[20] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 330- 334.
[21] - راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 336- 337.
[22] - سورة البقرة: آية 216.
[23] - معجم رجال الحديث، ج 7، ص 226.
[24] - تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 289.
[25] - نهج البلاغة- الحكمة رقم 438.
[26] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 342- 346.
 
2025-05-13 | 22 قراءة