قصة (ذو القرنين)

وردت قصة ذي القرنين في القرآن الكريم في سورة الكهف حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98)[1].

[1] - سورة الكهف: الآيات 83-99.

 
ذو القرنين الحاكم العادل
 
 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً[1].

ذكر المفسّرون كلاماً كثيراً حول شخصية ذي القرنين الواردة في القرآن الكريم، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التاريخية المعروفة تنطبق أوصافه؟ ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية هي:

النظرية الأولى: يرى البعض أنّ «ذو القرنين» ليس سوى «الإسكندر المقدوني»، لذا فإنّهم يسمونه «الإسكندر ذو القرنين» ويعتقد هؤلاء بأنّه سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب ومصر، وبنى مدينة الإسكندرية، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس، ثمّ ذهب من هناك إلى «أرمينيا»، وفتح العراق وبلاد فارس، ثمّ قصد الهند والصين، ومن هناك رجع إلى خراسان، وقد بنى مدنا كثيرة، ثمّ جاء إلى العراق ومرض في مدينة «زور» وتوفي فيها.

ويقول البعض: إنّه لم يعمّر أكثر من (36) سنة، أمّا جسده فقد ذهبوا به إلى الإسكندرية ودفنوه هناك [2].

النظرية الثّانية: يرى جمع من المؤرخين أنّ «ذو القرنين» كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ «تبّع» وجمع ذلك «تبابعة») وقد دافع عن هذه النظرية «الأصمعي» في تأريخ العرب قبل الإسلام، و«ابن هشام» في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام، و«أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية». ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن، وبعضا من شعراء الجاهلية تفاخرا بكون «ذو القرنين» من قومهم [3]. وفقا لهذه النظرية يكون سد ذي القرنين هو سد «مأرب» المعروف.

النظرية الثّالثة: وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوما منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال، وطبقا لهذه النظرية فإنّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني [4].

عن الأصبغ بن نباتة، قال: قام ابن الكوّاء إلى الإمام علي (عليه السلام) وهو على المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن ذي القرنين، أنبيا كان أم ملكا؟ وأخبرني عن قرنيه، أمن ذهب أم من فضة؟

فقال له (عليه السلام): «لم يكن نبيا ولا ملكا ولم يكن قرناه من ذهب ولا فضة، ولكنه كان عبدا أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، وإنما سمي ذا القرنين لأنه دعا قومه إلى الله عزَّ وجل فضربوه على قرنه، فغاب عنهم حينا، ثم عاد إليهم، فضرب على قرنه الآخر، وفيكم مثله». يعني نفسه.

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: «ملك ذو القرنين وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ومكث في ملكه ثلاثين سنة» [5].

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن ذا القرنين كان عبدا صالحا جعله الله عزَّ وجل حجة على عباده، فدعا قومه إلى الله وأمرهم بتقواه، فضربوه على قرنه فغاب عنهم زمانا حتى قيل مات أو هلك، بأي واد سلك، ثم ظهر ورجع إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر، وفيكم من هو على سنته، وأن الله عزَّ وجل مكّن لذي القرنين في الأرض، وجعل له من كل شي‏ء سببا، وبلغ المغرب والمشرق، وإن الله عزَّ وجل سيجري سنته في القائم من ولدي، فيبلغه مشرق الأرض وغربها حتى لا يبقى ولا موضعا منها من سهل أو جبل وطأه ذو القرنين إلا وطأه، ويظهر الله له عز وجل كنوز الأرض ومعادنها، وينصره بالرعب، ويملأ الأرض به عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما [6].

 
لماذا سمي (ذو القرنين) بهذا الاسم؟
 

 

يعتقد البعض أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب، حيث يعبّر العرب عن ذلك بقرني الشمس، والبعض الآخر يرى بأنّه عاش قرنين أو أنّه حكم قرنين، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مختلفة في ذلك، والبعض الثّالث يقول: كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن)، ولهذا السبب سمّي بذي القرنين، وأخيرا فإنّ البعض يعتقد بأنّ تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين [7].

بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك، فقد جاء مجمع البيان: « وفي سبب تسميته بذي القرنين أقوال أخر (منها) أنه سمي به لأنه كانت له ضفيرتان. (ومنها) أنه كان على رأسه شبه القرنين تواريه العمامة. (ومنها) أنه بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب فسمي بذلك لاستيلائه على قرن الشمس من مغربها وقرنها من مطلعها. (ومنها) أنه رأى في منامه أنه دنى من الشمس حتى أخذ بقرنيها في شرقها وغربها فقص رؤياه على قومه فسموه ذا القرنين. (ومنها) أنه عاش عيش قرنين فانقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، (ومنها) أنه كان كريم الطرفين من أهل بيت الشرف من قبل أبيه وأمه، قال معاذ بن جبل كان من أبناء الروم واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية» [8].

لكن لو لاحظنا بدقة آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنّ ذا القرنين كانت له صفات مميزة هي:

لقد هيّأ الله جلّ وعلا له أسباب القوّة ومقدمات الانتصار، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.

لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة: الأوّل إلى الغرب والثّاني إلى الشرق والثّالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي، وفي كل هذه الأسفار كان له تعامل خاص مع الأقوام المختلفة، حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة، كان رجلا مؤمنا تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف، ولم ينحرف عن طريق العدل، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص، إذ كان ناصرا للمحسنين وعدوّا للظالمين، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا، وكان مؤمنا بالله وباليوم الآخر.

لقد صنع واحدا من أهم وأقوى السدود، السّد الذي استفاد لصنعه من الحديد والنحاس بدلا من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى مستخدمة فيه، فهي لا تعتبر شيئا بالقياس إلى الحديد والنحاس)، أمّا هدفه من بنائه فكان مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.

كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس، وذلك قبل نزول القرآن، لذا فإنّ قريشاً أو اليهود سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾.

ويمكن القول أنه لا يمكن الاستفادة بشي‏ء من صريح القرآن للدلالة على أنّه كان نبيّا، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى ونقرأ في العديد من الرّوايات الإسلامية الواردة عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّه: « لم يكن نبيّا بل عبدا صالحا» [9].

يقول المولى عز وجل حاكيا عن قصة هذا الحاكم العظيم: ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً[10].

أي فاتّخذ طريقا وسلكه نحو الغرب ﴿ حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ﴾، أي وصل إلى المحل الذي يتراءى له فيه غروبها من سطح الأرض، ومعناه أنه انتهى إلى آخر أمكنة العمران من جهة المغرب. ﴿ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾، أي وجد الشمس تغيب عن ناظريه في عين كثيرة الحمأ أي الطّين الأسود المنتن، وقرئ: (في عين حامية) أي حارّة، فقد وجد الشمس تغرب هناك وإن كانت بالحقيقة لا تغرب في مرمى بصر ولكن ظلّها في الماء خيّل له ذلك، لأن الشمس في واقع الأمر لا تزايل الفلك، ولا تدخل في عين ماء يعيش قربها قوم ويقيمون آمنين من الاحتراق بحرارتها، بل هي لا تبارح مجاريها في النظام الكونيّ، وإنما ذكر القرآن الكريم ما يتراءى للعالمين من شروق الشمس وغروبها بهذا الوصف الدقيق المعجز الرائع [11]. فلما بلغ ذو القرنين ذلك الموضع تراءى له كأن الشمس تغرب في عين كما أن من كان في البحر رآها كأنها تغرب في الماء، ومن كان في البر يراها كأنها تغرب في الأرض الملساء. والحاصل أن ذا القرنين لمّا بلغ ذلك الموضع رأى كأنّ الشمس تغيب في تلك العين، التي هي في الواقع ساحل المحيط الأطلسي، حيث وصل إلى هناك ﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ﴾ أي في تلك البقعة من الأرض وجد أناسا... ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾.

في هذا دلالة على أن القوم كانوا كفارا والمعنى إما أن تعذب بالقتل من أقام منهم على الشرك، وإما أن تأسرهم وتمسكهم بعد الأمر لتعلمهم الهدى وتستنقذهم من العمى، وقيل معناه وإما أن تعفو عنهم، واستدل من ذهب إلى أن ذا القرنين كان نبيا بهذا قال: لأن أمر الله تعالى لا يعلم إلا بالوحي والوحي لا يجوز إلا على الأنبياء وقيل: إن الله تعالى ألهمه ولم يوح إليه وقيل: إن كان ذو القرنين نبيا فإن الله تعالى قال له كما يقول للأنبياء إما بتكليم أو بوحي، وإن لم يكن نبيا فإن معنى قلنا ألهمنا لأن الإلهام ينوب عن الوحي. قال سبحانه: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ أُمِّ مُوسَى ﴾‏ أي وألهمناها. قال قتادة فقضى ذو القرنين فيهم بقضاء الله تعالى وكان عالما بالسياسة: ﴿ قالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾ أي أشرك: ﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ أي نقتله إذا لم يرجع عن الشرك: ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى‏ رَبِّهِ ﴾ بعد قتلي إياه: ﴿ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ﴾، أي منكرا غير معهود، يعني في النار وهو أشد من القتل في الدنيا [12].

ثم تقول الآية: ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾ أي أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن، فضلا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

والظاهر أنّ ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوته إلى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين، الأولى: هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان، وهذه ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية: فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين، وتقف في الجبهة المناوئة، وتستمر في شركها وظلمها، وتواصل فسادها، وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله: ﴿ مَنْ ظَلَمَ ﴾ وقوله:﴿ مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صالِحاً ﴾، يتبيّن لنا أنّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعدّ من ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعندما انتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق، حيث يقول القرآن في ذلك: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾، أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ﴾ وهنا رأى أنّها: ﴿ تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّا، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس. أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس.

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكّن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك [13].

جاء في تفسير الجديد: أي أنهم عراة لا يتّقون أشعّتها (الشمس) بأيّ لباس، وليس في أرضهم أي جبل أو شجر أو بناء، لأنها أرض رخوة لا يثبت عليها بناء مضافا إلى أنهم لم يعرفوا بناء البيوت ولا وضع الثياب على الأجساد.

﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾: أي أن أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكانة وبسطة الملك والسلطان النافذ على الشرق والغرب، مضافا إلى إحاطتنا ومعرفتنا بما معه من جند كثير، وعدّة عديدة، وعلم غزير، ممّا لم يحط به غير اللطيف الخبير [14].

﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قَالُواْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً (98) ﴾.

تشير الآيات إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية، وهناك وجد أناسا (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى متدنٍ من المدنية، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدّن لدى البشر. لكن البعض احتمل أنّ جملة: ﴿ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ﴾ لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام، أي كانوا متخلفين فكريا.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجي‏ء ذي القرنين، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج [15]، فعرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا، ولا يقدرون على دفعهم وصدهم... وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.

وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال والتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية، حتى يقيم سدا يكون مانعا للقوم المفسدين من الاعتداء عليهم.

 

 
أين يقع سد ذي القرنين؟
 

بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجودا، ويبلغ طوله مئات الكيلومترات، إلّا أنّ الواضح أنّ جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية، ويبلغ طول مئات الكيلومترات، وما زال موجودا حتى الآن.

البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي، إلّا أنّه أنشئ لمنع السيل ولتخزين المياه، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.

ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة، فإنّ السد يقع في أرض القوقاز، بين بحر الخزر (قزوين) والبحر الأسود، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنّ سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق، وأنّ المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيّد لذلك.

الطريف في الأمر أنّه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى «سائرس» أي «كورش» إذ كان اليونان يسمون كورش بـ «سائرس». والآثار الأرمينية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم «بهاك كورائي» والتي تعني «مضيق كورش» أو«معبر كورش» وهذا دليل آخر على أنّ كورش هو الذي بنى السد [16].

 

 
يأجوج ومأجوج
 

ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين، إذ وردت المرّة الأولى في الآيات التي نبحثها، والثّانية في سورة الأنبياء، حيث يقول المولى سبحانه:﴿ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ[17].

يقول العلّامة الطباطبائي، في تفسير الميزان: ويستفاد منها أن «مأجوج» أو«جوج ومأجوج» أمة أو أمم عظيمة كانت قاطنة في أقاصي شمال آسيا من معمورة الأرض يومئذ، وأنهم كانوا أمما محاربة معروفة بالمغازي والغارات [18].

وجاء في وصف يأجوج ومأجوج، فروي أنهم من الترك ومن ولد يافث بن نوح، كانوا يفسدون في الأرض فضرب السد دونهم. وروي أنهم من غير ولد آدم. وفي عدة من الروايات أنهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو أنثى حتى يولد له ألف من الأولاد، وأنهم أكثر عددا من سائر البشر حتى عدوا في بعض الروايات تسعة أضعاف البشر، وروي أنهم من الشدة والبأس بحيث لا يمرون ببهيمة أو سبع أو إنسان إلا افترسوه وأكلوه، ولا على زرع أو شجر إلا رعوه، ولا على ماء نهر إلا شربوه ونشفوه، وروي أنهم أمّتان كل منهما أربع مائة ألف أمّة كل أمّة لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه. وروي أنهم طوائف ثلاث فطائفة كالأرز وهو شجر طوال، وطائفة يستوي طولهم وعرضهم: أربعة أذرع في أربعة أذرع، وطائفة وهم أشدهم، للواحد منهم أذنان يفترش بإحداهما ويلتحف بالأخرى، يستوفي إحداهما لابسا له وهي وبرة ظهرها وبطنها ويصيف في الأخرى وهي زغبة ظهرها وبطنها، وهم صلب، على أجسادهم من الشعر ما يواريها، وروي أن الواحد منهم شبر أو شبران أو ثلاثة، وروي أن الذين كانوا يقاتلونهم كانت وجوههم وجوه الكلاب، وما إلى ذلك من الروايات [19].

على أن الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم، وقد جاء في كتاب «حزقيل» من التوراة، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين، وفي كتاب رؤيا «يوحنا» الفصل العشرين، ذكرا بعنوان «كودك» و«ماكوك» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.

والبعض يعتقد أنّ هاتين الكلمتين عبريتين، ولكنهما في الأصل انتقلتا من اليونانية إلى العبرية، إذ كانتا تلفظان في اليونانية ب «كاك» و«ماكاك» ثمّ انتقلتا على هذا الشكل إلى كافة اللغات الأوروبية.

ثمّة أدلة تاريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «منغوليا» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كان الناس يتكاثرون بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.

وقد وردت مقاطع تاريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم، وقد تمّت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي، بقيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الإمبراطورية الرومانية.

وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثّاني عشر الميلادي بقيادة جنكيزخان، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية. وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات، لكن موقف حكومة «ماد وفارس» إزاءهم أدّى إلى تغير الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أنّ يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية، حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين [20].

 
بناء السد
 

 

نعود إلى متابعة قصة ذي القرنين حيث يقول: ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْر... ﴾ أي أنه أجابهم قائلا: إن ما ملّكني إياه ربّي، وأقدرني عليه من المال والسلطان خَيْرٌ ممّا تبذلون لي من مالكم: ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾ فساعدوني بقوة الرجال. فمعنى القوة قوة الأبدان، أو أن المراد آلات العمل وبعض لوازمه كالحديد والصفر، أو المراد كلاهما.

وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض، فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال والتطوع بإقامة السد، ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين، فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْماً [21].

﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ... ﴾ أعطوني قطع الحديد التي هيأتها لكم بالاقتدار الربّاني إذ وهب لي ذلك سبحانه من فضله وأعطاني إياه... ثم مضى في العمل: ﴿ حَتَّى إِذَا سَاوَى‏ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾، الصدف: منقطع الجبل وجانبه، فقد عمل بين منقطع الجبلين وما زال يردم الحجارة والأتربة وينضّد الزّبر ويركّبها بعضها فوق بعض، ويشيّد ردما يقوم على قطع حديد متراكبة منظّمة يتخلّل صفوفها الفحم ثم قالَ ذو القرنين (عليه السلام):

انْفُخُوا بالمنافخ التي صنعها لهذه الغاية من أجل إشعال النار وإضرامها في مختلف أجزاء الردم، فنفخوا: ﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراَ ﴾ أي صيّر الحديد نارا ﴿ قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾. أعطوني النحاس الذي أعددته لأفرغه على الحديد الملتهب فيمتزج بعضه ببعض، ويتماسك فيصير جسما واحدا. وقيل قصد القطر الذي تطلي به الإبل التي يظهر فيها الجرب، طلبه ليريقه على الحديد فيزيد في اشتعال النار ويساعد على التحام الحديد لشدة الحرارة التي يولّدها عند احتراقه. وهكذا عقد بينهم هذا السد الحاجز: ﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ أي ما قدروا على تجاوزه والصعود عليه لعلوّه وارتفاع بنائه ونعومة ملمسه: ﴿ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾، ولا قدروا على ثقبه وتدميره لصلابته وثخنه، فقد قيل إن ارتفاعه كان خمسين ذراعا، وثخنه ثمانية اذرع، وقد قال صاحب الكشاف: قيل: بُعدُ ما بين السّدّين مائة فرسخ، يقصد طول السّد من طرفيه مما يلي الجبلين [22].

وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقا للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله.

وبذلك التحم الحاجزان، وأغلق الطريق على يأجوج ومأجوج: ﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ ويتسوروه: ﴿ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾ فينفذوا منه. وتعذر عليهم أن يهاجموا أولئك القوم الضعاف المتخلفين، فأمنوا واطمأنوا.

ونظر ذو القرنين إلى العمل الضخم الذي قام به، فلم يأخذه البطر والغرور، ولم تسكره نشوة القوة والعلم، ولكنه ذكر الله فشكره، ورد إليه العمل الصالح الذي وفقه إليه، وتبرأ من قوته إلى قوة الله، وفوض إليه الأمر، وأعلن ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز والسدود ستدك قبل يوم القيامة، فتعود الأرض سطحا أجرد مستويا.

﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾..

وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين، النموذج الطيب للحاكم الصالح العادل، يمكنه الله في الأرض، وييسر له الأسباب فيجتاح الأرض شرقا وغربا، ولكنه لا يتجبر ولا يتكبر، ولا يطغى ولا يتبطر، ولا يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والجماعات والأوطان، ولا يعامل البلاد المفتوحة معاملة الرقيق، ولا يسخّر أهلها في أغراضه وأطماعه... إنما ينشر العدل في كل مكان يحل به، ويساعد المتخلفين، ويدرأ عنهم العدوان دون مقابل، ويستخدم القوة التي يسرها الله له في التعمير والإصلاح، ودفع العدوان وإحقاق الحق، ثم يُرجع كل خير يحققه الله على يديه إلى رحمة الله وفضل الله، ولا ينسى وهو في إبان سطوته قدرة الله وجبروته، وأنه راجع إلى الله [23].

وهكذا تمّ لذي القرنين ما أراده من إغلاق المنافذ التي كان ينفذ منها هذا الجيش البشري - يأجوج ومأجوج - ليفسدوا البلاد ويهلكوا العباد، وذلك انسجاما منه مع مسؤوليته الإيمانية في ما إرادة الله من تقوية الضعيف بقدرته.

لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به، إلّا أنّه قال بأدب كامل: ﴿ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾، لأنّ أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.

لقد أراد أن يقول: إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة، فإنّ كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثّر فذلك أيضا من الخالق جلّ وعلا. وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنّ ذلك من بركة الله ورحمة الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول: إنّني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به، ولم أعمل عملا مهمّا كي أمنّ على عباد الله. ثمّ استطرد قائلا: لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبديا وخالدا: ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾.

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث، لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع، ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر [24].

 
قصة (ذو القرنين والخضر وماء الحياة)
 

جاء في تفسير نور الثقلين [25] عن الأصبغ بن نباتة عن الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:... وكان ذو القرنين عبدا صالحا، كان من الله بمكان نصح الله فنصح له، وأحب الله فأحبه، وكان قد سبّب له في البلاد ومكّن له فيها، حتى ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة يقال له رقائيل ينزل إليه فيحدثه ويناجيه، فبينا هو ذات يوم عنده إذ قال له ذو القرنين: يا رقائيل كيف عبادة أهل السماء وأين هي من عبادة أهل الأرض؟ فقال:

أما عبادة أهل السماء ما في السموات موضع قدم إلا وعليه ملك قائم لا يقعد أبدا أو راكع لا يسجد أبدا، أو ساجد لا يرفع رأسه أبدا، فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال:

يا رقائيل إني أحب أن أعيش حتى أبلغ من عبادة ربي وحق طاعته بما هو أهله، فقال له رقائيل: يا ذا القرنين إن لله في الأرض عينا تدعى عين الحياة، فيها عزيمة من الله أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو يسأل الله الموت، فإن ظفرت بها تعيش ما شئت قال: وأين ذلك العين وهل تعرفها؟ قال: لا، غير أنا نجد في السماء أن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان، فقال ذو القرنين: وأين تلك الظلمة؟ قال رقائيل ما أدري، ثم صعد رقائيل فدخل ذا القرنين حزن طويل من قول رقائيل، ومما أخبره عن العين والظلمة، ولم يخبره بعلم ينتفع به منهما.

جمع ذو القرنين فقهاء أهل مملكته وعلمائهم وأهل دراسة الكتب وآثار النبوة، فلما اجتمعوا عنده قال ذو القرنين: يا معشر الفقهاء وأهل الكتب وآثار النبوة هل وجدتم فيما قرأتم من كتب الله أو من كتب من كان قبلكم من الملوك إن لله عينا تدعى عين الحياة، فيها من الله عزيمة أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت؟ قالوا: لا يا أيها الملك، قال: فهل وجدتم فيما قرأتم من الكتب إن لله في الأرض ظلمة لم يطأها إنس ولا جان؟ قالوا: لا أيها الملك، فحزن عليه ذو القرنين حزنا شديدا وبكى، إذ لم يخبر عن العين والظلمة بما يحب.

وكان فيمن حضره غلام من الغلمان من أولاد الأوصياء، أوصياء الأنبياء، وكان ساكتا لا يتكلم، حتى إذا أيس ذو القرنين منهم قال له الغلام: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عن أمر ليس لهم به علم، وعلم ما تريد عندي، ففرح ذو القرنين فرحا شديدا حتى نزل عن فراشه وقال له: أدن منّي، فدنا منه فقال: أخبرني، قال: نعم أيها الملك إني وجدت في كتاب آدم الذي كتب يوم سمى له ما في الأرض من عين أو شجر، فوجدت فيه أن لله عينا تدعى عين الحياة فيها من الله عزيمة أنه من يشرب منها لم يمت حتى يكون هو الذي يسأل الله الموت، بظلمة لم يطأها إنس ولا جان، ففرح ذو القرنين وقال: أدن منّي يا أيها الغلام أتدري أين موضعها؟ قال: نعم، وجدت في كتاب آدم أنها على قرن الشمس يعني مطلعها.

فرح ذو القرنين وبعث إلى أهل مملكته فجمع أشرافهم وفقهاءهم وعلماءهم وأهل الحكم منهم، فاجتمع إليه ألف حكيم وعالم وفقيه، فلما اجتمعوا إليه تهيأ للسير وتأهب له بأعد العدة وأقوى القوة، فسار بهم يريد مطلع الشمس يخوض البحار ويقطع الجبال والفيافي والأرضين والمفاوز، فسار إثنا عشر سنة حتى انتهى إلى طرف الظلمة، فإذا هي ليست بظلمة الليل ولا دخان، ولكنها هواء يفور، فسدّ ما بين الأفقين، فنزل بطرفها وعسكر عليها وجمع علماء أهل عسكره وفقهائهم وأهل الفضل منهم، فقال:

يا معشر الفقهاء والعلماء إني أريد أن أسلك هذه الظلمة فخروا له سجدا وقالوا: يا أيها الملك إنك لتطلب أمرا ما طلبه ولا سلكه أحد كان قبلك من النبيين والمرسلين، ولا من الملوك؟ قال: إنه لا بد لي من طلبها، قالوا: أيها الملك إنا لنعلم أنك إذا سلكتها ظفرت بحاجتك منها بغير عنت عليك لأمرنا، ولكنا نخاف أن يعلق بك منها أمر يكون فيه هلاك ملكك وزوال سلطانك وفساد من في الأرض، فقال: لا بد من أن أسلكها، فخروا سجدا وقالوا: إنا نتبرأ إليك مما يريد ذو القرنين.

فقال ذو القرنين: يا معشر العلماء أخبروني بأبصر الدواب؟ قالوا: الخيل الإناث البكارة أبصر الدواب، فانتخب من عسكره فأصاب ستة آلاف فرس إناثا أبكارا، وانتخب من أهل العلم والفضل والحكمة ستة آلاف رجل، فدفع إلى كل رجل وعَقَدَ لـ (أفسحر) وهو الخضر (عليه السلام) على ألف فرس، فجعلهم على مقدمته وأمرهم أن يدخلوا الظلمة، وسار ذو القرنين في أربعة آلاف وأمر أهل عسكره أن يلزموا معسكره اثني عشر سنة، فإن رجع هو إليهم إلى ذلك الوقت والا تفرقوا في البلاد ولحقوا ببلادهم أو حيث شاءوا، فقال الخضر: أيها الملك إنا نسلك في الظلمة لا يرى بعضنا بعضا كيف نصنع بالضلال إذا أصابنا؟ فأعطاه ذو القرنين خرزة حمراء كأنها مشعل لها ضوء، فقال: خذ هذه الخرزة فإذا أصاب بكم الضلال فارم بها إلى الأرض فإنها تصيح، فإذا صاحت رجع أهل الضلال إلى صوتها، فأخذها الخضر ومضى في الظلمة، وكان الخضر يرتحل وينزل ذو القرنين، فبينا الخضر يسير ذات يوم إذ عرض له واد في الظلمة فقال لأصحابه:

قفوا هذا الموضع لا يتحركن أحد منكم عن موضعه، ونزل عن فرسه فتناول الخرزة فرمى بها في الوادي فأبطأت عنها بالإجابة حتى ساء ظنه وخاف أن لا يجيبه ثم أجابته، فخرج إلى صوتها فإذا هي العين بقعرها، وإذا ماؤها أشد بياضا من اللبن وأصفى من الياقوت، وأحلى من العسل، فشرب منه ثم خلع ثيابه فاغتسل منها، ثم لبس ثيابه ثم رمى بالخرزة نحو أصحابه فأجابته فخرج إلى أصحابه وركب وأمرهم بالمسير، فساروا.

ومر ذو القرنين بعده فاخطأ الوادي، فسلكوا تلك الظلمة بأربعين يوما وأربعين ليلة، ثم خرجوا بضوء ليس بضوء نهار ولا شمس ولا قمر ولكنه نور، فخرجوا إلى أرض حمراء رملة خشخاشة فركة كان حصاها اللؤلؤ، فإذا هو بقصر مبني على طوله فرسخ، فجاء ذو القرنين إلى الباب فعسكر عليه ثم توجه بوجهه وحده إلى القصر، فإذا طائر وإذا حديدة طويلة قد وضع طرفاها على جانبي القصر، والطير أسود معلق بأنفه في تلك الحديدة بين السماء والأرض، مزموم كأنه الخطاف أو صورة الخطاف أو شبيه بالخطاف أو هو خطاف، فلما سمع خشخشة ذي القرنين قال: من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، قال: أما كفاك ما وراك حتى وصلت إلى حد بابي هذا؟ ففرق ذو القرنين فرقا شديدا فقال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل كثر بنيان الآجر والجص؟ قال: نعم، قال: فانتفض الطير وامتلأ حتى ملأ من الحديدة ثلثها ففرق ذو القرنين فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال:

هل كثرت المعازف؟ قال: نعم قال: فانتفض الطير وامتلاء حتى ملأ من الحديدة ثلثيها، ففرق ذو القرنين، فقال: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ارتكب الناس شهادة الزور في الأرض؟ قال: نعم، فانتفض انتفاضة وانتفخ فسد ما بين جداري القصر قال: فامتلأ ذو القرنين فرقا منه فقال له: لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس شهادة أن لا اله إلا الله؟ قال: لا، فانضم ثلثه، ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس الصلاة المفروضة؟ قال: لا قال: فانضم ثلث آخر ثم قال: يا ذا القرنين لا تخف وأخبرني، قال: سل، قال: هل ترك الناس الغسل من الجنابة؟ قال: لا، قال: فانضم حتى عاد إلى حاله الأول.

وإذا هو بدرجة مدرجة إلى أعلى القصر، قال: فقال الطير: يا ذا القرنين اسلك هذه الدرجة فسلكها وهو خائف لا يدري ما هو عليه حتى استوى على ظهرها، فإذا هو بسطح ممدود البصر، وإذا رجل شاب ابيض مضي‏ء الوجه عليه ثياب بيض حتى كأنه رجل أو في صورة رجل أو شبيه بالرجل أو هو رجل، وإذا هو رافع رأسه ينظر إلى السماء ينظر إليها واضع يده على فيه، فلما سمع خشخشة ذي القرنين، قال:

من هذا؟ قال: أنا ذو القرنين، قال: يا ذا القرنين أما كفاك ما وراك حتى وصلت إليّ؟ قال ذو القرنين: ما لي أراك واضعا يدك على فيك؟ قال: يا ذا القرنين أنا صاحب الصور، وإن الساعة قد اقتربت وأنا انتظر أن أؤمر بالنفخ فأنفخ، ثم ضرب بيده فتناول حجرا فرمى به إلى ذي القرنين كأنه حجر أو شبه حجر أو هو حجر، فقال:

يا ذا القرنين خذ هذا، فإن جاع جعت وإن شبع شبعت فارجع فرجع ذو القرنين بذلك الحجر حتى خرج به إلى أصحابه، فأخبرهم بالطير وما سأله عنه وما قال له، وما كان من أمره، وأخبرهم بصاحب السطح وما قال له وما أعطاه، ثم قال لهم:

إنه أعطاني هذا الحجر وقال لي: إن جاع جعت، وان شبع شبعت - وقال: أخبروني بأمر هذا الحجر فوضع الحجر في إحدى الكفتين، ووضع حجرا مثله في الكفة الأخرى، ثم رفع الميزان فإذا الحجر الذي جاء به أرجح بمثل الآخر، فوضعوا آخر فمال به حتى وضعوا ألف حجر كلها مثله، ثم رفعوا الميزان فمال بها ولم يستمل به الألف حجر فقالوا: يا أيها الملك لا علم لنا بهذا.

فقال له الخضر: أيها الملك إنك تسأل هؤلاء عما لا علم لهم به، وقد أوتيت علم هذا الحجر، فقال ذو القرنين: فأخبرنا وبيّنه لنا، فتناول الخضر الميزان فوضع الحجر الذي جاء به ذو القرنين في كفة الميزان، ثم وضع حجرا آخر في كفة أخرى، ثم وضع كف تراب على حجر ذي القرنين يزيده ثقلا، ثم رفع الميزان فاعتدل وعجبوا وخروا سجدا لله وقالوا: أيها الملك هذا أمر لم يبلغه علمنا، وإنا لنعلم أن الخضر ليس بساحر فكيف هذا وقد وضعنا معه ألف حجر كلها مثله، فمال بها، وهذا قد اعتدل به وزاده ترابا؟

قال ذو القرنين: بيّن يا خضر لنا أمر هذا الحجر، فقال الخضر: أيها الملك إن أمر الله نافذ في عباده، وسلطانه قاهر، وحكمه فاصل، وإن الله ابتلى عباده بعضهم ببعض، وابتلى العالم بالعالم، والجاهل بالجاهل، والعالم بالجاهل، والجاهل بالعالم، وإنه ابتلاني بك وابتلاك بي، فقال: يرحمك الله يا خضر إنما تقول: ابتلاني بك حين جعلت أعلم منى، وجعلت تحت يدي، أخبرني يرحمك الله عن أمر هذا الحجر؟

فقال الخضر: أيها الملك إن هذا الحجر مثل ضربه لك صاحب الصور، يقول: إن مثل بنى آدم مثل هذا الحجر الذي وضع ووضع معه ألف حجر فمال بها، ثم إذا وضع عليه التراب شبع وعاد حجرا مثله، فيقول: كذلك مثلك أعطاك الله من الملك ما أعطاك فلم ترض به حتى طلبت أمرا لم يطلبه أحد كان قبلك، ودخلت مدخلا لم يدخله إنس ولا جان، يقول: كذلك ابن آدم لا يشبع حتى يحثى عليه التراب.

قال: فبكى ذو القرنين بكاء شديدا وقال: صدقت يا خضر، ضرب لي هذا المثل: لا جرم أني لا أطلب أثرا في البلاد بعد مسلكي هذا، ثم انصرف راجعا في الظلمة، فبينهم كذلك يسيرون إذ سمعوا خشخشة تحت سنابك خيلهم فقالوا:

أيها الملك ما هذا؟ فقال: خذوا منه، فمن أخذ منه ندم ومن تركه ندم، فأخذ بعض وترك بعض، فلما خرجوا من الظلمة إذا هم بالزبرجد، فندم الآخذ والتارك [26]، ورجع ذو القرنين إلى دومة الجندل وكان بها منزله فلم يزل بها حتى قبضه الله.

 
دروس تربوية
 
 
إنّ قصّة ذي القرنين بشكل عام تحتوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها، ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي:

1- إنّ أوّل درس تعلمنا إيّاه أنّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم ذي القرنين وانتصاره في علمه: ﴿ وآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً ﴾، وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» من هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن: ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾. لذلك فإنّ من يظن أنّه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته، فإنّه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!

2- بالرغم من أنّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في الباصرة واشتباه منها، إلّا أنّ المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة، ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من أنظار الناس.

3- لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع، ومعاقبة المذنبين والمخطئين، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيث قال: ﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ﴾‏.

والإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد، إذ يقول (عليه السلام): «ولا يكونن المحسن والمسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة» [27].

4- التكليف الشّاق وتصعيب الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون، كل هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا، ولهذا السبب فإنّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين، أضاف: ﴿ وسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ﴾ حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.

5- الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعي شرائط حياتهم المختلفة، ولهذا السبب فإنّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإلهية والذي واجه أقواما مختلفة، كان يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصّة، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.

6- إنّ «ذو القرنين» لم يستعبد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام، أو كما وصفهم القرآن: ﴿ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾، بل إنّه استمع إلى مشاكلهم، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان، وبنى لهم سدا محكما بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج)، وقد قام بإنجاز أمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنّه كان يظهر أنّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شي‏ء). في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ قوله: «إسماع الأصم من غير تصعّر صدقة هنيئة» [28].

7- الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السليمة، لهذا السبب تحمّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من أعدائهم، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التاريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء، حيث يقال للبناء القوي «إنّه مثل سدّ الإسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الإسكندر.

ومن البديهي القول أنه لا يمكن للمجتمع أن يسعد من دون قطع الطريق على المفسدين، ولهذا فإنّ أوّل شي‏ء طلبه إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة هو الأمن: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا[29]. ولهذا السبب أيضا فإنّ الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر.

8- الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هذه القصّة، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأولى في الاشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم، لذا فإنّ «ذو القرنين» أعطى أمرا إلى الفئة التي اشتكت إليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد، ثمّ أعطاهم الأمر بإشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب، وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحملهم لمجهودات إنشائه. كما يتّضح من هذه النقطة أن المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن ينجز أعمالا مهمّة وعظيمة إذا تمتع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

9- الزعيم الإلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي، وإنّما يقتنع بما حباه الله، لذا رأينا «ذو القرنين» عندما اقترحوا عليه الأموال قال: ﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾، وهذا النمط من السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال. وفي القرآن الكريم نقرأ مرارا في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاء لأعمالهم ودعواتهم.

ويمكن مشاهدة هذا الموضوع في أحد عشر موردا من القرآن الكريم، سواء ما يخص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأنبياء السابقين، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير: ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ﴾ وفي أحيان أخرى يضع القرآن محبّة أهل البيت (عليهم السلام)، والذين هم ركن القيادة المستقبلية، أساسا للجزاء فيقول: ﴿ قُل لَّا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ ﴾.

10- إحكام الأمور هو درس آخر نستفيده من هذه القصّة، فذو القرنين استفاد من القطع الحديدية الكبرى في بناء السد، وقد وصلها بالنّار، ثمّ غطّاها بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إذا تعرضت للهواء والرطوبة.

11- مهما كان الإنسان قويا ومتمكنا وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال، فعليه أن لا يغتر بنفسه، وهذا هو درس آخر نتعلمه من قصة «ذو القرنين». فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلّ وعلا، وقال بعد إتمام السد: ﴿ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾. وعندما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال: ﴿ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ﴾. وأخيرا عندما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم، فإنّه لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إلى الله تعالى.

12- كل شيء إلى زوال مهما كان محكما وصلدا، هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

نعم، إنّ سد ذي القرنين أمر هيّن قياسا إلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات، إذا فكيف بالإنسان المعرّض للأضرار أكثر من غيره!؟ ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزا على الوقوف بوجه الاستبداد؟ [30].

[1] - سورة الكهف: آية 83.
[2] - راجع: تفسير الفخر الرازي، والكامل لابن الأثير (المجلد الأوّل صفحة 287). ويعتقد البعض أن أوّل من قال بهذه النظرية هو الشيخ ابن سينا في كتابه الشفاء.
[3] - تفسير الميزان، ج 13، ص 414.
[4] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 362- 363.
[5] - البرهان في تفسير القرآن، ج‏3، ص: 659.
[6] - تفسير نور الثقلين، ج‏3، ص: 294- 295.
[7] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 364.
[8] - مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏6، ص: 756.
[9] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 365.
[10] - سورة الكهف، الآيتان: 85 -86.
[11] - الجديد في تفسير القرآن المجيد، ج‏4، ص: 360.
[12] - مجمع البيان في تفسير القرآن، ج‏6، ص: 757.
[13] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 351-352.
[14] - الجديد في تفسير القرآن المجيد، ج‏4، ص: 362.
[15] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 368.
[16] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 369- 370. وللمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «ذو القرنين أو كورش الكبير».
[17] - سورة الأنبياء: آية 96.
[18] - الميزان في تفسير القرآن، ج‏13، ص: 380.
[19] - الميزان في تفسير القرآن، ج‏13، ص:372- 373.
[20] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 370- 371.
[21] - في ظلال القرآن، ج‏4، ص: 2292.
[22] - الجديد في تفسير القرآن المجيد، ج‏4، ص: 363.
[23] - في ظلال القرآن، ج‏4، ص: 2293.
[24] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص: 356.
[25] - راجع: تفسير نور الثقلين، ج‏3، ص: 298- 304.
[26] - أما ندم التارك فواضح فلأنه تمنى لو أخذ، وأما ندم الآخذ فإنه تمنى لو أنه استزاد مما أخذ.
[27] - نهج البلاغة، الرسالة رقم 53.
[28] - سفينة البحار، ج2، مادة «صمم».
[29] - سورة إبراهيم: آية 35.
[30] - الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏9، ص:358- 362.
2025-05-13 | 35 قراءة