1- الإخبار عن الغيب:
تحدّى القرآن الكريم بالإخبار عن بعض الغيب بآيات كثيرة، ما كان للناس أن يعلموها ولا من شأنهم أن يطّلعوا عليها لولا إخبار القرآن الكريم بها، ومن هذه الإخبارات الغيبية:
أ- إخبار القرآن عن بعض الحوادث الماضية الخافي أمرها وحقيقتها عن الناس، منها:
- قوله تعالى بعد سرد قصّة النبي نوح عليه السلام وقومه: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ .
- قوله تعالى بعد سرد قصّة النبي يوسف عليه السلام وأخوته ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ .
- قوله تعالى بعد سرد قصة مريم عليها السلام: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ .
ب- الإخبار عن بعض الحوادث المستقبلية الخافي أمرها وحقيقتها عن الناس، منها:
- قوله تعالى في انغلاب الروم ثمّ غلبتهم: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ .
- قوله تعالى في رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة بعد الهجرة: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ .
إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن حقائق علمية مجهولة للناس زمن نزول القرآن، كشف عنها العلم الحديث في عصرنا الحاضر، أو أخبار تنبّئ عن الحوادث العظيمة التي تستقبل الأمّة الإسلامية أو الدنيا عامّة بعد نزول القرآن .
2- الكشف عن حقائق علمية:
كشف القرآن الكريم عن معارف وحقائق كونيّة وقوانين طبيعية لا سبيل إلى معرفتها في زمن نزول القرآن إلا عبر الوحي الإلهي، وبعض هذه الحقائق لم يتّضح للناس إلا بعد توافر العلوم وتقدّم البشرية وتطوّرها في فترة متأخّرة، وبعضها الآخر لا يزال مجهولاً بالنسبة إليهم حتى الآن. ومن هذه الحقائق التي كشف عنها الوحي الإلهي، وتنبّه لها العلم الحديث، ما يلي :
أ- دور الرياح في تلقيح النبات والأشجار: قال تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ...﴾ ، حيث أثبت العلم الحديث أنّ النباتات والأشجار تحتاج إلى اللقاح لكي تثمر، وعملية التلقيح هذه تحصل بواسطة الرياح التي تحمل اللقاح من مكان إلى آخر.
ب- ظاهرة الزوجية: قال تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ، ﴿سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ﴾ ، ﴿...وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ...﴾ ، حيث تصرّح هذه الآيات بعموميّة ظاهرة الزوجية التكوينية لكلّ شيء أوجده الله تعالى في هذا الكون.
ج- حركة الأرض ودورانها: قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا...﴾ ، حيث تصوّر هذه الآية الأرض على شكل مهد بالنسبة لمن عليها، وهذه الحالة ناجمة عن الحركة الموضعية والانتقالية للأرض، ومثلما تكون حركة المهد سبباً لسكينة الطفل ونموه, كذلك تؤدّي حركة الأرض إلى تكامل الإنسان وتطوّره.
د- كرويّة الأرض: قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا...﴾ ، ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ ، ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾. حيث إنّنا لو فرضنا أنّ الأرض مسطّحة, فلا يمكن أن يكون لها أكثر من مشرق ومغرب في وقت واحد, إلا على فرض كرويّتها وتبدّل أوضاعها وحالاتها بالنسبة إلى الشمس.
3- الفصاحة والبلاغة (البيان):
من أبعاد إعجاز القرآن فصاحته وبلاغته، حيث تحدّى بهما العرب الذين بلغوا مبلغاً لم يذكره التاريخ لواحدة من الأمم المتقدّمة عليهم أو المتأخّرة عنهم، ووطئوا موطئاً لم تطأه أقدام غيرهم, في كمال البيان، وجزالة النظم، ووفاء اللفظ، ورعاية المقام، وسهولة المنطق :
قال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ .
وقال تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ .
وقد طالت مدّة التحدّي، وتمادى زمان الاستنهاض, فلم يجيبوه إلا بالتجافي، ولم يزدهم إلا العجز، ولم يكن منهم إلا الاستخفاء والفرار: ﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ .
ويمكن الإشارة إلى بعض خصائص هذا الإعجاز ، في ما يلي:
أ- دقيق تعبير القرآن ورقيق تحبيره: حيث وضع القرآن كلّ لفظٍ موضعه الأخصّ، إذا أُبدل بغيره جاء منه فساد معنى الكلام أو سقوط رونقه، من قبيل: تقديم السمع على البصر في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ , لأنّ السمع أرقى وأعقد وأدقّ وأرهف من جهاز البصر.
ب- طرافة سبك القرآن وغرابة أُسلوبه: فسبكه جديد، وأُسلوبه فريد، لا هو شعر كشعر العرب، ولا هو نثر كنثرهم، ولا فيه تكلّف أهل السجع والكهانة، على أنّه جَمَع بين مزايا أنواع الكلام الرفيع, فيه أناقة الشعر، وطلاقة النثر، وجزالة السجع الرصين، وجميع آيات القرآن تشهد بذلك.
ج- عذوبة ألفاظ القرآن وسلاسة عباراته: حيث تبتهج له الأرواح وتنشرح له الصدور، في رونق جذّاب وروعة خلاّبة, حتى أنّ بعض الألفاظ الغريبة في نفسها, إذا ما استعملها القرآن الكريم بدت غاية في الحسن في النظم، من قبيل: لفظة "ضِيزَى" في قوله تعالى: ﴿تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ ، حيث إنّ الآية في معرض الإنكار على العرب بجعلهم الملائكة والأصنام بنات لله - والعياذ بالله - مع وأدهم البنات، فقال تعالى: ﴿أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ ، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها عليهم، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصوّر في هيئة النطق بها، الإنكار في الأُولى والتهكّم في الأُخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة.
د- تناسق نظم القرآن وتناسب نغمه: حيث يجد السامع لذّةُ، بل وتعتريه نشوةٌ, إذا ما طرق سمعه جواهر حروف القرآن، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى﴾ .
فهذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً ـ على نظام غير نظام الشعر العربي ـ متّحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متّحد نابع من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي وآخر.
هـ- تجسيد معاني القرآن في أجراس حروفه: حيث تتواءم أجراس حروفه مع صدى معانيه، ويتلاءم لحن بيانه مع صميم مراميه, مِن وعد أو وعيد، وترغيب أو ترهيب، من قبيل قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾ ، وكأنّك تحسّ بسمعك صوت هذه الريح العاتية، ولها صرير وصراخ وقعقعة وهياج، تَنسف وتُدمّر كلّ شيء, فتُصوّر وقع عذاب شديد ألمّ بقوم ظالمين.
و- الترابط والتناسق المعنوي في القرآن: فالقرآن منتظم السياق، متلاحم الألفاظ والمعاني، متواصل الأهداف والمباني, حيث إنّك تجد ذلك في ترابط الكلمات داخل الآية الواحدة، وترابط الآيات داخل السورة الواحدة، وترابط السور داخل القرآن, ضمن تناسق معنوي معجز وباهر.
ز- حسن تشبيهات القرآن وجمالُ تصويراته: فتشبيهاته من أمتن التشبيهات الواقعة في فصيح الكلام، وأجمعهنّ
لمحاسن البديع، وأوفاهنّ بدقائق التصوير، ورقائق التعبير، ورحائق التحبير، من قبيل قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ , حيث إنّه شبّه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذّر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنّه لم يبقَ بعده إلاّ الخمود! فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبَّه والمشبَّه به.
ح- جودة استعارات القرآن وروعةُ تخييلاته: حيث أبدع القرآن فيها وأجاد إجادةَ البصير المُبدع، وأفاد إفادةَ الخبير المضطلع، في إحاطة بالغة لم يعهد لها نظير، ولم يخلفه أبداً بديل، من قبيل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ , ففي استعارة النطق من الإنسان إلى الأرض والسماء وهما من الجماد، والنطق إنّما هو للإنسان لا للجماد.
ط- لطيف كنايات القرآن وظريف تعريضاته: فكناياته أوفى الكنايات وأدقّهنّ وأرقّهنّ، حيث لم تفته لطافةٌ في كناية، ولا ظرافةٌ في تعريض، من قبيل قوله تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ﴾ , هذا مَثل ضَربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه، فكنّى بالماء عن العِلم، وبالأدوية عن القلوب، وبالزَبد عن الضلال. وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾ , فإنّ سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه.
4- التصوير الفنّي:
يشكّل التصوير الفنّي وجهاً إعجازياً من وجوه القرآن الإعجازية, وذلك بفعل خصائص القرآن الكريم في تصوير المشاهد والمعاني المختلفة، وفق تخييل فنّي فائق الروعة، يجذب القلوب والأبصار ويأسرها بسحره وجماله. وقد تجلّى ذلك من خلال تصويره لمشاهد الطبيعة الحيّة، وآثار الفضائل والرذائل والمحاسن والمساوىء، وقصص الماضين من الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وضرب الأمثال، وأحوال المعاد والقيامة والحساب...، حيث يجد من يعالجها قمة في الجمال وروعة في التصوير الفنّي, حتى كأنّه يشاهدها حاضرة عنده .
ومن المشاهد الفنّية التي صوّرها القرآن الكريم، ما يلي:
أ- مشاهدة يوم القيامة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ ، حيث تصوّر هاتان الآيتان مشهداً مزدحماً بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاّه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هول لا يُقاس بالحجم والضخامة، ولا يمكن أن يعبّر عن عظمته بحسر كلماته وأسلوبه الخاصّ... المرضعات الذاهلات عمّا أرضعن، والحاملات الملقيات حملهنّ، والسكارى وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد .
ب- حبط أعمال الكافرين: قال تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ , تصوير حبط أعمال الكافرين بمشهد حركة الريح في يوم عاصف, تذرو الرماد، فتذهب به بدداً، إلى حيث لا يجتمع أبداً .
ج- عاقبة الشرك بالله: قوله تعالى: ﴿... وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ . هكذا في ومضة، يخرّ من السماء من حيث لا يدري احد، فلا يستقرّ على الأرض لحظة، إنّ الطير لتخطفه، أو إنّ الريح لتهوي به... وتهوي به في مكان سحيق! حيث لا يدري احد كذلك! وذلك هو المقصود .
الأفكار الرئيسة
1- من أبعاد إعجاز القرآن: الإخبار عن الغيب، الكشف عن حقائق علمية، الفصاحة والبلاغة (البيان).
2- ومن أبعاد اعجاز القرآن, وجود التصوير الفني، كالاستعارات والكتابات ذي الصور الفنية الرائعة.
مطالعة
دعوى الإعجاز بنحو الصرفة
1- واقع الدعوى:
إنّ الآية والمعجزة في القرآن إنّما هي لجهة صرف الناس عن معارضته، بحيث صرفَهم الله تعالى أن يأتوا بحديث مثله، وأمسك بعزيمتهم دون القيام بمقابلته، ولولا ذلك لاستطاعوا الإتيان بسورة مثله. وهذا التثبيط في نفسه إعجاز خارق للعادة، وآية دالّة على صدق نبوّته صلى الله عليه وآله وسلم. ويُحتَمل أن يكون الصرف سلباً لقُدرتهم على المعارضة، أو سلباً لدواعيهم عليها، أو سلباً للعلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة.
2- مناقشة الدعوى:
يمكن مناقشة دعوى الإعجاز بنحو الصرفة بالتالي:
أ- مخالفتها لآراء جمهور العلماء.
ب- هذه الدعوى خطيرة في نفسها, لأنّها قد تُوجب طعناً في الدين، وتشنيعاً بمعجزة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم , بأن لا آية في جوهر القرآن، ولا معجزة في ذاته، وإنّما هو معجز لأمر خارج هو الجبر وسلب الاختيار. وهذا ينافي الاختيار الذي هو غاية التشريع والتكليف.
ج- دعوى الصرفة خلاف التحدّي الذي هو جوهر الإعجاز.
د- يلزم من هذه الدعوى إدراك مَنْ كان يهمّ بالمعارضة لفقدانه القدرة على ذلك بعد أن كان قادراً.
هـ- لا مباهاة مع مسلوب القدرة حتى لو بلغ المتحدّى به مقداراً كثيراً.
و- إنّ الإعجاز القرآني ليس منحصراً بكيفية تركيب الحروف والألفاظ وجمعها ضمن أسلوب بديع، فالأهمّ من وراء ذلك تضمّن هذه الحروف والكلمات لأغراض ومضامين عالية منسجمة في ما بينها، ضمن منظومة معرفية معنوية كاملة وتامّة.
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص64-65، 68.
3- الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص67-77.
4- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج5، ص10-422.
5- سيّد قطب، التصوير الفنّي في القرآن، ص36-37، 39، 43، 62.