1- تطوّر اللغة العربيّة ورسمها:
ترتبط نشأة اللغات الإنسانيّة بتطوّرات الحياة الاجتماعية وتفاعلاتها، وتعدّ اللغة العربية من اللغات التي خضعت على طول مسيرتها لهذه القاعدة، حيث تعرّضت لكثير من التطوّرات, بفعل سعة بقعة انتشارها, فتعدّدت لهجاتها واختلفت، ولا سيما بعد الفتوحات الإسلامية .
وتجدر الإشارة إلى أنّ اللهجة عبارة عن سلوك لغويّ له مميّزات لغويّة ذاتُ نظامٍ صوتيّ خاصّ تخصّ بيئةً معيّنة، يشترك فيها جميع أفراد تلك البيئة . ومجال الاختلاف الأهمّ بين اللهجات هو الأصوات واختلاف معاني الوحدات الدلاليّة .
وقد اشتهرت لهجة قريش أكثر من غيرها من اللهجات العربية الأخرى السائدة قبل الإسلام, كتميم وهذيل وغيرهما, للموقع الاقتصاديّ والدينيّ الذي كانت تتمتّع به مكّة آنذاك, ما أدّى إلى مزيد من الأثر في تهذّب لهجة قريش وتطوّرها, نتيجة الاختلاط بلهجات الشعوب والقبائل الأخرى، ثمّ كان لنزول القرآن الكريم بلهجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرشية بالغ الأثر في سيادة هذه اللهجة القرشية وصيرورتها اللغة الفصحى.
والمشهور أنّ العرب أخذوا لغتهم من الحيرة، التي أخذت من الأنبار، وأخذت الأنبار من الأنباط، وأخذ الأنباط لغتهم من الكتابة الساميّة الشماليّة المأخوذة من الكتابة الفينيقيّة، التي بدورها أخذت كتابتها من الكتابة السينائيّة الأمّ في سيناء.
وادّعي أنّ رسم العربيّة الشمالي أشتُقّ من الكتابة السريانيّة. والواقع أنّه لا دليل على ذلك، وغاية ما يمكن استفادته تأثير السريانية في الكتابة النبطية التي تأثر بها رسم العربيّة الشمالي.
وقد تفرّع الخطّ النبطي إلى نوعين من الخطوط: خطّ يشبه الخطّ الكوفي في خطوطه المستقيمة وزواياه، وخطّ نسخي حرفه أكثر استدارة وأسهل كتابة.
وبقي الخطّان - النسخي والكوفي - متداولان بين المسلمين، يعملون على تحسينهما وتطويرهما، حتى جاء ابن مقلة في بداية القرن الرابع للهجرة، وأدخل تحسينات هامّة جدّاً على الخطّ النسخي, ليصبح على ما عليه اليوم من جمال فائق، بخلاف الخطّ الكوفي الذي لم يلقَ أيّ تطوّر أو ازدهار حتى هُجِرَ تماماً .
2- رسم العربية في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
لم يتمّ العثور على كتابات قرآنية تعود إلى الفترة النبوية، ولكنّ مكّة والمدينة كتبتا في تلك الفترة برسم العربيّة الشماليّ المعروف المتطوّر عن الرسم النبطي، وبخطّ مطاوع مستدير يمثّل أحد الخطّين المأثورَين عن الأنباط. ومن خصائص الخطّ المكيّ والمدنيّ أنّ في ألفاته تعويج إلى يمنة اليد وأعلى الأصابع، وفي شكله انضجاع يسير .
وما يؤيّد هذه الآثار خرابيشُ منقوشة على الصخر في جبل سلع قرب المدينة المنوّرة، يرجع تاريخها إلى غزوة الخندق(الأحزاب) في السنة الخامسة للهجرة، وقد انتظمت هذه الخرابيش في كتابة كبيرة، في قسمها اليميني ذكر أبي بكر وعمر، وفي قسمها اليساري ذكر لأسماء منها: "أنا محمد بن عبد الله"، ومنها بخطّ كبير: "أنا علي بن أبي طالب".
أمّا ما كُتب على الرقّ، وهو محتمل النسبة، فهو رسائل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التي أرسلها إلى الملوك بعد عودته من الحديبية, ومنها رسائله إلى النجاشي، وهرقل، وكسرى، وغيرهم. وتُبرز هذه الخرابيش الحجرية والرقوق رسماً فيه ملامح الكتابة النبطية في ثوبها المتأخّر، فتغيب فيها الألفات الداخلية، والشكل، والإعجام، والشدّات، والهمزات، والمدّات، وقد كتبت بخطّ مستدير فيه تشبه ملامحه ملامح الخطّ النسخي الذي تطورّ في ما بعد .
3- رسم المصحف العثماني:
يُراد بـ "رسم المصحف": صورة ما كُتِبَ في المصاحف العثمانية . ويُراد بـ "فنّ رسم المصحف": "أوضاعُ حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطيّة" .
والرسم الذي دوّنت به المصاحف العثمانية هو رسم العربية الذي كان سائداً في المدينة المنوّرة زمن الجمع العثماني سنة خمس وعشرين من هجرة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد قال كثيرون بتوقيفيّة الرسم العثماني, وأنّه من عند الله تعالى، في حين ذهب آخرون إلى أنّه اجتهادٌ من الصحابة .
وقد بيّن البحث المعاصر أنّ هذا الرسم - على المظنون - امتداد للرسم النبطي في ثوبه المتأخّر، حيث ورث كثيراً من سمات ذلك الرسم, فجاء غير معجم ولا مشكول, تغيب عنه الألفات الداخلية إجمالاً, ويعوزه كثيرٌ من المحدِّدات والرموز, كالشدّة، والهمزة، والمدّة, إلى غير ذلك من نواحي النقص والإبهام .
4- مخالفات ومناقضات في رسم المصحف:
وردت في المصحف مخالفات ومناقضات في الرسم لا يستهان بها, وهي ترجع إلى قلّة خبرة أعضاء لجنة توحيد المصاحف أيّام عثمان في هذا المجال، حيث إنَّهم عندما فرغوا من نَسْخ المصاحف أتَوا بمصحف إلى عثمان، فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أرى فيه شيئاً من لَحْن! لكن ستُقيمه العرب بألسنتها، ثمَّ قال: لو كان المُملي من هُذَيل، والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا! .
وتجدر الإشارة إلى أنّ القرآن وصل إلينا متواتراً في نقل كلماته وترتيبها, بالحفظ والنقل الشفوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، جيلاً بعد جيل، حيث توافرت الدواعي لنقله، وإن لم يكن متواتراً في كيفية أداء هذه الكلمات.
وعليه، فإنّ هذه المخالفات والمناقضات في الرسم لا تضرّ بالمعنى ولا بثبت النصّ القرآني المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد كان الإمام علي عليه السلام حريصاً على الالتزام بما نتج عن لجنة توحيد المصاحف، على الرغم من وجود مخالفات في الرسم والإملاء, حِفاظاً على كتاب الله من أن تمسَّه يد التحريف في ما بعد تحت ذريعة الإصلاح، حيث سأله بعض الناس عن إمكانية تغيير كلمة فيه، فأجابهم عليه السلام بحزم: "إنَّ القرآن لا يهاج اليوم ولا يحوَّل" .
أ- نماذج من مخالفات الرسم :
- ﴿وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ ، والصَحيح: واختلاف اللَّيل...
- ﴿عَلاَّمُ الْغُيُوبِ﴾ ، والصحيح: علّام.
- ﴿بِالْغَدَاةِ﴾ ، والصحيح: بالغداة.
- ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ﴾ ، والصحيح: لا ييأس.
- ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ﴾ ، والصحيح: نبأ.
ب- نماذج من مناقضات الرسم :
- ﴿فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ ، ﴿لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً﴾ .
- ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ ، ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء﴾ .
- ﴿قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ﴾ ، ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ﴾ .
- ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ﴾ ، ﴿إِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ﴾ .
- ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ﴾ ، ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ .
5- أوَّل مَن نقَّط المصحف:
كان الخطُّ عندما اقتبسه العرب من السريان والأنباط خالياً من الإعجام، ولا تزال الخطوط السريانية بلا إعجام إلى اليوم، وهكذا كان عليه الخطّ العربي حتّى منتصف القرن الأوَّل، ثمّ دخل عليه الإعجام في أواخر القرن الأوّل الهجري، حيث تعرَّف الناس على نُقَط الحروف المعجمة وامتيازها عن الحروف المهملة, وذلك على يد يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، تلميذَي أبي الأسود الدؤلي، بعد أن اتّسعت الدولة الإسلامية، واختلط العرب بالعجم، فبدأ اللبس والإشكال في قراءة المصاحف بين الناس، حتى ليشقّ على كثير منهم أن يهتدي لقراءة القرآن قراءة صحيحة من دون وجود إعجام .
6- أوَّل مَن شكّل المصحف:
كان الخطّ العربي في أوّل عهده مجرَّداً عن التشكيل وعن كلِّ علامة تشير إلى حركة الكلمة أو إعرابها. وبعد توسّع الفتوحات الإسلامية، شعر المسلمون بوجود حاجة ماسّة إلى وضع علامات تشكيلية للمصحف تُؤمنهم من الوقوع في الخطأ واللحن عند قراءة القرآن، ولا سيما بعد دخول ألسنة عجموية على اللسان العربي .
ونُقِلَ أنَّ أبا الأسود الدؤلي سمع قارئاً يقرأ: ﴿أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ ـ بكسر اللام (في رسوله) ـ فقال:
ما ظننت أنَّ أمر الناس آلَ إلى هذا، فرجع إلى زياد بن أبيه ـ وكان والياً على الكوفة (50 - 53هـ)، وكان قد طلب إليه أن يصنع شيئاً يكون للناس إماماً، ويُعرَف به كتاب الله، فاستعفاه أبو الأسود، حتّى سمع بنفسه هذا اللحن في كلام الله، فعند ذلك عزم على إنجاز ما طلبه زيادـ وكان أبو الأسود يقول للكاتب: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف, فأنقط نقطة فوقه من أعلاه، وإن ضممت فمي, فأنقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت, فاجعل النقطة من تحت الحرف .
الأفكار الرئيسة
1- المشهور أنّ العرب أخذوا لغتهم من الحيرة، التي أخذت من الأنبار، وأخذت الأنبار من الأنباط، وأخذ الأنباط لغتهم من الكتابة الساميّة الشماليّة المأخوذة من الكتابة الفينيقيّة، التي بدورها أخذت كتابتها من الكتابة السينائيّة الأمّ في سيناء.
2- كتبت مكّة والمدينة في صدر الإسلام برسم العربيّة الشماليّ المعروف المتطوّر عن الرسم النبطي.
3- رسم المصحف: صورة ما كُتِبَ في المصاحف العثمانية. وفنّ رسم المصحف: أوضاعُ حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطيّة. ومصطلح "الرسم" فأقرب ما يكون إلى مصطلح "الكتابة".
4- وردت في المصحف مخالفات ومناقضات في الرسم لا يستهان بها, وهي ترجع إلى قلّة خبرة أعضاء لجنة توحيد المصاحف أيّام عثمان في هذا المجال. ولكنّها لا تضرّ بالمعنى ولا بثبت النصّ القرآني المتواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
5- أوَّل مَن نقَّط المصحف هما: يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم, تلميذَا أبي الأسود الدؤلي.
6- أوَّل مَن شكّل المصحف هو: أبو الأسود الدؤلي, صاحب الإمام علي عليه السلام.
مطالعة
أوّل من ضبط المصحف بالحركات المأخوذة من الحروف
كان الشَكل في الصدر الأوَّل نُقَطاً، فالفتحة نقطة على أوَّل الحرف، والضمَّة على آخره، والكسرةُ تحت أوَّله. والذي اشتهر الآن: الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 175هـ)، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضمّ واو صغيرة فوقه، والتنوين زيادة مثلها. وأوَّل مَن وضع الهمز والتشديد والرَوم والإشمام الخليل – أيضاً -.
أوّل من كتب المصحف بخطّ مجوّد
إنّ أوَّل مَن كتب المصاحف في القرن الأوّل ويوصف بحسن الخطّ هو: خالد بن أبي الهياج (ت: 100هـ), صاحب أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكان مشهوراً بجمال خطِّه وأناقة ذوقه، ويقال: إنَّ سعداً ـ مولى الوليد وحاجبه ـ اختاره لكتابة المصاحف والشِعر والأخبار للوليد بن عبد الملك (ت: 96هـ)، فكان هو الذي خطَّ قِبلة المسجد النبوي بالمدينة بالذهب من سورة الشمس إلى آخر القرآن. وطلب إليه عمَر بن عبد العزيز أن يكتب له مصحفاً على هذا المثال، فكتب له مصحفاً تنوَّق فيه.
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- وافي، علم اللغة، ص96، 176-177.
3- السامرائي، التطوّر اللغويّ التاريخي، ص3
4- ابن خلدون، المقدّمة، ص417-421، 438.
5- ابن النديم، الفهرست، ص9، 45-46.
6- حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، ص32، 99 - 142.
7- ابن الجزري، النشر في القراءات، ج1، ص446.
8- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص300، 310-316، 332-333.
9- السجستاني، كتاب المصاحف، ص22-24.
10- المتّقي الهندي، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ج2، ح4784، ص586, ح4787، ص587.
11- الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج9، ص495.
12- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص369-372.
13- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص454، 456.