جمع القرآن (2)

1- جمعُ الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام:
أ- واقع الجمع:

كان الإمام علي عليه السلام أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة وبوصيّةٍ منه، حيث جلس في بيته مشتغلاً بجمْع القرآن وترتيبه وفق نزوله، مع إضافة شروحات وتفاسير لمواضع مبهمة من الآيات، وبيان أسباب النزول ومواقع النزول والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ...

عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعليّ عليه السلام: يا عليّ، القرآن خلف فِراشي في الصحُف والحرير والقراطيس، فخُذوه واجمَعوه ولا تضيِّعوه، كما ضيعت اليهود التوراة، فانطلق علي عليه السلام, فجمعه في ثوب أصفر، ثمّ ختم عليه في بيته، وقال: لا أرتدي حتى أجمعه، فإنّه كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء, حتى جمعه. قال: وقال رسول الله: لو أنّ الناس قرأوا القرآن كما أنزل الله ما اختلف اثنان" .

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "ما من أحد من الناس يقول إنَّه جَمع القرآن كلَّه كما أنزلَ الله إلاّ كذّاب، وما جمَعه وما حَفظه كما أنزل الله إلاّ عليّ بن أبي طالب" .
 
وروى محمَّد بن سيرين عن عكرمة، قال: لمّا كان بدْء خلافة أبي بكر، قعَد عليّ بن أبي طالب في بيته يجمع القرآن، قال: قلت لعكرمة: هل كان تأليف غيره كما أُنزل الأوَّل فالأوَّل؟ قال: لو اجتمعت الإنس والجنُّ على أن يؤلِّفوه هذا التأليف ما استطاعوا. قال ابن سيرين: تطلَّبت ذلك الكتاب وكتبت فيه إلى المدينة، فلم أقدر عليه .

وقال ابن جزي: كان القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مفرَّقاً في الصحُف وفي صدور الرجال، فلمّا توفّي جَمَعه عليّ بن أبي طالب على ترتيب نزوله، ولو وجِد مصحفه لكان فيه عِلم كبير، ولكنَّه لم يوجد .

ب- خصائص الجمع:

يمتاز المصحف الذي جمعه الإمام علي عليه السلام عن سائر المصاحف التي جمعها الصحابة بمميّزات عدّة، أبرزها:
- ترتيب سوره على أساس ترتيب نزول القرآن.
- إثبات النصّ القرآني من دون نقص أو زيادة.
- إثبات قراءته وفق قراءة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
- اشتماله على شروحات وتوضيحات جانبية على هامش النصّ القرآني، تعرّض فيها لبيان مناسَبات النزول، ومكان النزول، ومصاديق مَنْ نزلت فيهم، وفي مَنْ تجري، وعلى مَنْ تنطبق، وبيان المحكم والمتشابه من الآيات، وناسخها ومنسوخها، وظاهرها وباطنها، وتنزيلها وتأويلها...

عن الأصبغ بن نباتة، قال: قَدِم أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة، صلَّى بهم أربعين صباحاً يقرأ بهم ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، فقال المنافقون: لا والله ما يُحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن، ولو أحسن أن يقرأ القرآن لقرأ بنا غير هذه السورة! قال: فبلَغ ذلك عليّاً عليه السلام فقال: "ويلٌ لهم، إنّي لأعرِفُ ناسِخه من منسوخه، ومحكَمه من متشابهه، وفصْله من فِصاله، وحروفه من معانيه، والله ما من حرفٍ نزل على محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أنّي أعرف في مَنْ أُنزل، وفي أيِّ يوم وفي أيِّ موضع، ويلٌ لهم أما يقرأون: ﴿إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ ؟ والله عندي، ورثتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد أنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إبراهيم وموسى عليهما السلام. ويلٌ لهم، والله أنا الذي أنزلَ الله فيَّ: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ ، فإنَّما كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فيُخبرنا بالوحي، فأعيَه أنا ومَن يعيَه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفاً؟" .

وعن سليم بن قيس الهلالي: سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: "ما نزلت آية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أقرأَنيها وأمْلاها عليَّ، فأكتبها بخطّي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها، وناسخها ومنسوخها، ومُحكَمها ومتشابهها، ودعا الله لي أن يعلِّمني فهْمها وحِفظها، فما نسيت آية من كتاب الله، ولا عِلماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا، فما نسيت آية من كتاب الله ولا علم أملاه علي فكتبته منذ دعا لي بما دعا، وما ترك شيئاً علمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهى كان أو لا يكون من طاعة أو معصية إلا علمنيه وحفظته، فلم أنس منه حرفاً واحداً، ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً لم أنس شيئاً، ولم يفتني شيء لم أكتبه" .

ج- مصير الجمع:
روى سُليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي رضوان الله عليه، قال: لمّا رأى أمير المؤمنين صلوات الله عليه غَدْر الناس به لزِم بيته، وأقبل على القرآن يؤلِّفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتّى جمَعَه، وكان في الصحُف، والشظاظ ، والأسيار ، والرقاع وبعثَ القوم إليه ليبايع، فاعتذر باشتغاله بجمْع القرآن، فسكتوا عنه أيّاماً حتّى جمعه في ثوب واحد وختَمه، ثمَّ خرج إلى الناس - وروى بعضهم أنّه أتى به يحمله على جمل  - وهم مجتمعون حول في المسجد، وخاطبهم قائلاً: "إنّي لم أزل منذ قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشغولاً بغُسله وتجهيزه، ثمَّ بالقرآن حتّى جمَعته كلَّه في هذا الثوب الواحد، ولم يُنزِل الله على نبيِّه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها، وليس منه آية إلاّ وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلَّمني تأويلها, لئلاّ تقولوا غداً: ﴿إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾!" فقام إليه رجُل من كِبار القوم، فقال: يا عليّ، اردُده فلا حاجة لنا فيه، ما أغنانا بما معَنا من القرآن عمّا تدعونا إليه، فدخل عليّ عليه السلام بيته .

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أخرجه علي عليه السلام (أي القرآن) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه، فقال لهم: هذا كتاب الله عزّ وجلّ كما أنزله (الله) على محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وقد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان علي أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه" .

وما زال هذا المصحف يتوارثه الأئمّة من ولده عليهم السلام , وسوف يُخرِجه الإمام القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بعد ظهوره ويُظهِره للناس, فعن الإمام الصادق عليه السلام: "فإذا قام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف قرأ كتاب الله عزّ وجلّ على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه السلام" .


 
2- جمْعُ زيد بن ثابت:
أ- واقع الجمع:

إنّ رفض القوم لمصحف الإمام علي عليه السلام استدعى التفكير في القيام بمهمَّة جمْع القرآن مهما كلّف الأمر. وبدأت فكرة الجمع مع عمَر بن الخطّاب، الذي اقترح على أبي بكر أن ينتدب لذلك مَن تتوافر فيه شرائط القيام بهذه المهمَّة الخطيرة، فوقع اختيارهم على زيد بن ثابت الأنصاري.

قال زيد: أرسلَ إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ـ وعُمَر جالس عنده ـ قال: إنَّ هذا ـ وأشار إلى عُمَر ـ أتاني وقال: إنّ القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقُرّاء القرآن، وأخاف أن يستحرّ بهم القتْل في سائر المَواطِن فيذهب كثير من القرآن، وأشار عليَّ بجمْع القرآن، فقلت لعُمَر: كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني عُمَر حتّى شرح الله صدري لذلك، ورأيت الذي رأى عُمَر! وقال لي أبو بكر: إنَّك شابٌّ عاقل لا نتَّهمُك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فَتتبَّع القرآن واجمعهُ. فوالله لو كلَّفوني نقل جبَل من مكانه لم يكن أثقل عليَّ ممّا كلَّفوني به، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فلم يزل أبو بكر وعُمَر يلحّان علَيَّ حتّى شرح الله صدري للَّذي شرح له صدر أبي بكر وعُمَر. فقمت أتتبّع القرآن أجمعه من العُسُب، واللِخاف، وصدور الرجال .

ب- خصائص الجمع:
- اعتمد زيد في الجمع على ما هو موجود من القرآن عند الصحابة, بحيث كان مكتوباً على العسُب، واللِخاف، والأديم، والقراطيس، أو محفوظاً في صدورهم .

- عاون زيد في الجمع لجنة مؤلّفة من خمسة وعشرين رجلاً من قريش وخمسين رجلاً من الأنصار، وكان عُمَر يُشرف عليهم بنفسه ويأمرهم بعرضه على سعيد بن العاص, لأنّه رجل فصيح .

- كان زيد وعمر يقعدان على باب المسجد، والناس يأتونهم بآيِ القرآن وسوَره, كلٌّ حسَب ما عنده من القرآن. وكانوا يكتبونها على الصحف والألواح والعسب، ولا يقبلون من أحد شيئاً حتّى يأتي بشاهد عدل يشهد بصحَّة ما عنده من قرآن .

- آخر آيتين من سورة براءة أُخِذتا من خزيمة بن ثابت وحده فقط, لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر شهادته وحدَه بشهادتين .

- لم ينظّم زيد سوَر القرآن أو يرتّبها ضمن مصحف جامع، وإنَّما جمَع القرآن في صُحف, أي أودعَ الآيات والسوَر المتفرّقة في صحُف، وجعلها في إضبارة وجمعها بجامع وربطها بخيط، خوفاً من التفرقة والضياع .

- صحُف زيد كانت مرتَّبة الآيات دون السوَر .

ج- مصير الجمع:

أُودِعت هذه الصحُف المجموعة من قِبَل زيد بن ثابت عند أبي بكر، فبقيت معه حتى وفاته، ثمَّ صارت إلى عمَر، وبعده كانت عند ابنته حفصة، وفي أيّام توحيد المصاحف استعارها عثمان منها ليقابل بها النُسَخ، ثمَّ ردَّها إليها، وقد طلبها منها مروان ـ يوم كان والياً على المدينة من قِبل معاوية ـ فابت أن تدفعها إليه، فلمّا توفّيت أخذَها من عبدالله بن عمر، وأمرَ بها, فشُقَّت .
 
 


الأفكار الرئيسة


1- كان الإمام علي عليه السلام أوَّل مَن تصدّى لجمْع القرآن بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة وبوصيّةٍ منه صلى الله عليه وآله وسلم.

2- من خصائص جمع الإمام علي عليه السلام: ترتيب سوره وفق ترتيب النزول، إثبات النصّ القرآني من دون نقص أو زيادة، إثبات قراءته وفق قراءة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, اشتماله على شروحات وتوضيحات جانبية على هامش النصّ القرآني...

3- مصحف الإمام علي عليه السلام يتوارثه الأئمّة عليهم السلام من بعده، وهو الآن مع الإمام الحجّة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

4- إنّ رفض القوم لمصحف الإمام علي عليه السلام استدعى التفكير في القيام بمهمَّة جمْع القرآن مهما كلّف الأمر، فوقع اختيارهم على زيد بن ثابت الأنصاري.

5- من خصائص جمع زيد بن ثابت: الاعتماد على المكتوب من القرآن وكذلك المحفوظ في الصدور، تشكيل لجنة لجمع القرآن وأخذه من الناس على باب المسجد، عدم قبول ما لم تَقمْ عليه شهادة شاهدين، إلا ما أُخِذَ من خزيمة بن ثابت, فقد اكتفوا بشهادته فقط، جمَع القرآن في صُحف وليس في مصحف، المصحف مرتَّب الآيات دون السوَر.

6- أُودِعت هذه الصحُف عند أبي بكر، ثمَّ صارت إلى عمَر، وبعده كانت عند ابنته حفصة، فلمّا توفّيت أخذَها مروان، وأمرَ بها, فشُقَّت.

 


مطالعة


مصحف الإمام علي عليه السلام مع الإمام القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف 
روى سليم بن قيس أنّه يوم اختلف الناس في المصاحف في عهد عثمان، سأل طلحة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام, لو يُخرج للناس مصحفَه الذي جمعَه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتى به إلى القوم فرفضوه، فقال طلحة: وما يمنعك يرحمك الله أن تُخرج كتاب الله إلى الناس؟! فكفَّ عليه السلام عن الجواب أوّلاً، فكرَّر طلحة السؤال فقال: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمْر القرآن أن لا تظهره للناس؟ قال عليه السلام: يا طلحة، عمداً كففتُ عن جوابك.

قال طلحة: فأخبِرني عمّا كتَبه القوم أقرآن كلّه أمْ فيه ما ليس بقرآن؟ قال عليه السلام: بل هو قرآن كلّه، إن أخذتم بما فيه نجَوتم من النار ودخلتم الجنَّة، فإنّ فيه حجّتنا، وبيان أمرنا وحقّنا وفرض طاعتنا، قال طلحة: حَسبي، أمّا إذا كان قرآناً فحَسبي، ثم قال طلحة: فأخبرني عما في يديك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام، إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال عليه السلام: إلى الذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أدفعه إليه. 

قال: من هو؟ قال عليه السلام: وصيي وأولى الناس بالناس بعدي, ابني هذا الحسن، ثمّ يدفعه ابني الحسن عند موته إلى ابني هذا الحسين، ثمّ يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين، حتى يرد آخرهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حوضه. وهم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم".
 


المصادر والمراجع


1- القرآن الكريم.
2- القمي، تفسير القمي، ج2، تفسير سورة الناس، ص451.
3- الكليني، الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب أنّه لم يجمع القرآن...، ح1، ص228, ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ح23، ص633.
4- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص161-163.
5- ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، ج1، ص12.
6- العياشي، تفسير العياشي، ج1، باب في علم الأئمّة عليهم السلام بالتأويل، ح2، ص14.
7- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص135.
8- الهلالي، كتاب سليم بن قيس، ص146-147, ص210-212.
9- البخاري، صحيح البخاري، ج5، ص210, ج6، ص98, ج8، ص119.
10- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص207، 213-214.
11- الطبراني، مسند الشاميين، ج4، ص23
12- العسقلاني، فتح الباري، ج9، ص1
13- المتّقي الهندي، كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، ج2، ص573-574.
 

2020-11-23 | 1160 قراءة