الوحي (2)

1- ضرورة الوحي:
إنّ الإنسان مفطور على حبّ الانتفاع ودفع المضارّ واستخدام غيره من بني نوعه. وبفعل وجود الاختلاف الضروري بين أفراد الإنسان من حيث الخِلْقَة وطريقة العيش والعادات والتقاليد... شدّة وضعفاً, كان من الطبيعي أن يَظهر الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية، بحيث يستفيد القوي أكثر من الضعيف, بما يؤدّي إلى الإخلال بميزان العدل الاجتماعي بين الناس, ما استدعى وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة والمشاجرات في لوازم الحياة.

ومن الطبيعي أن يكون مصدر هذه القوانين من غير الفطرة, لأنّ ما به الاختلاف لا يصلح وحده لأن يكون مصدراً للحلّ, فكان بذلك النوع البشري محتاجاً إلى مصدر آخر يُصلِح الفطرة بالفطرة، وينسجم معها، ويعدل قواها المختلفة عند طغيانها، وينظّم للإنسان حياته الدنيوية والأخروية .

ومن هنا، كان الوحي صلة وصل بين الله تعالى وخلقه, يكشف لهم عن المعارف الإلهية والحقائق الربّانية اللازمة لرفع الاختلاف والوصول إلى سعادة النوع الإنساني. ولأنّ العقل البشري وحده قاصر عن إدراك هذه الحقائق والمعارف والكشف عنها, كان من الضروري أن يجعل الله تعالى طريقاً آخراً ينسجم مع العقل والفطرة ويكمّلهما: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ...﴾ .

2- إمكانية الوحي ووقوعه:
يمتلك الإنسان وراء شخصيَّته المادّيّة الظاهرة شخصيَّة أخرى معنوية باطنة، من شأنها أن تتيح له الارتباط بعالم معنوي أعلى مجرّد عن المادّة ولوازمها، فالإنسان في عالم الدنيا موجود مركّب من روح وجسد، يرتبط بالعالم المادّي بجسده ويحمل خصائصه وقابليّاته: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾، ويرتبط بالعالم المجرّد بروحه ويحمل خصائصه وقابليّاته -أيضاً -: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ . وهذا الخلْق الآخر هو وجود الإنسان الروحي الذي أفاضه الله تعالى، فمنه مبدؤه: ﴿...وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ ، وإليه منتهاه: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ .

وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ﴾ ، قال: "إنّ الله عزّ وجلّ خلق خلقاً وخلق روحاً، ثم أمر ملكاً فنفخ فيه" .

ومن هذا المنطلق، لا مانع للإنسان مِن أن يتَّصل في جانبه المعنوي والروحي بالعالم المجرّد، طالما أنّ روحه تحمل خصائص هذا العالم وقابليّاته, فيكون هذا الاتّصال خفيّاً لا يحمل خصائص المادّة، ولا يخضع لقوانينها الطبيعية, وهو ما يشكّل ظاهرة الوحي.

وقد نزل الوحي على امتداد تاريخ البشرية حتّى انقطاعه برحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام الذين وجد الله تعالى فيهم الأهلية اللازمة لتلقّي الوحي الإلهي, بحيث خصّهم بذلك من دون غيرهم من الناس: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ...﴾ .

 

3- حقيقة الوحي وكيفية حصوله:
هو إدراك خاصّ مختلف عن سائر الإدراكات البشرية المشتركة بين أفراد البشر كافّة، والمتحصّلة عن طريق الحسّ أو العقل أو الغريزة أو الوجدان، يُوجِده الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام إيجاداً لا يعتريه لبس أو شكّ أو خطأ، ولا يحتاجون فيه إلى إعمال نظر، أو توسّل دليل، أو إقامة برهان، أو حجّة, كما هو شأن الإدراكات البشرية. قال تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ...﴾ , فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلقّى الوحي الإلهي بنفسه الشريفة من غير توسّط الحواس الظاهرة, فيسمع ويرى من غير وساطة السمع والبصر الماديّين, وإلا لكان من الممكن أن يسمع ويرى غيره من الناس, ما سمعه ورأه بالوحي، وَلَما كان الوحي حينها من مختصّات مقام النبوّة.

ويوجد أمر لا نستطيع إدراكه في ظاهرة الوحي، وإن كنّا نعتبره واقعاً حقّاً، ونؤمن به إيماناً صادقاً، وهو: كيف يقع هذا الاتّصال الروحي؟ والسبب في ذلك: أنّ الوحي ليس من سنخ عالم المادّة والمادّيات, لكي نستطيع إدراك كنهه أو تحديد كيفية حصوله، وكلّ ما باستطاعتنا إنَّما هو التعبير عنه على نحو التشبيه والاستعارة، أو المجاز والكناية لا أكثر، فهو ممّا يُدرَك ولا يُوصَف. فالوحي ظاهرة روحية يدركها مَن يصلُح لها، ولا يستطيع غيره أن يصِفها وصفاً بالكُنه، ما عدا التعبير عنها بالآثار والعوارض هذا فحسب. وكذلك التعبير بنزول الوحي أو المَلَك هو تعبير مجازي، وليس سوى إشراقة وإفاضة قدسية ملَكوتية يجدها النبيّ عليه السلام حاضرة نفسه، مُلقاة عليه من خارج روحه .

 

4- عدم استمرارية الوحي النبوي:
الوحي النبوي مختصّ بالأنبياء عليهم السلام, وقد انقطع الوحي بعد رحيل خاتم النبيين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم, حيث اكتملت الرسالة الخاتمة: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ...﴾  ، وأُمِرَ الناس أن يتّبعوا رسالة الإسلام وترك باقي الرسالات السابقة: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ، وأن يسيروا على هديها مستضيئين بهدي الإمامة الحاملة لحقائق هذه الرسالة، والمبيّنة لها، والضامنة لتطبيقها الصحيح: ﴿...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا...﴾ .

وعن الإمام علي عليه السلام: "بأبي أنت وأمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك, من النبوّة، والأنباء، وأخبار السماء" .

وتجدر الإشارة إلى أنّ انقطاع الوحي النبوي برحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يستلزم انقطاع الاتّصال مع الله سبحانه وتعالى, حيث إنّ جبرائيل عليه السلام كان ينزل على فاطمة عليها السلام بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحدّثها. روي عن الإمام الصاق عليه السلام: "إنّ فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً، وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيها، فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيّب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريّتها، وكان علي عليه السلام يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة عليها السلام" .

وأمّا الاتّصال بالغيب فموجود بين الله تعالى وحجّته في أرضه الإمام المعصوم عليه السلام فهو محدّث وإن لم يكن موحى إليه وحياً نبويّاً لختم النبوة بخاتم المرسلين الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. عن بريد العجلي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرسول والنبيّ والمحدَّث، قال: الرسول الذي تأتيه الملائكة وتبلِّغه عن الله تبارك وتعالى، والنبي الذي يرى في منامه فما رأى فهو كما رأى، والمحدَّث الذي يسمع كلام الملائكة وينقر في أُذنه وينكت في قلبه .

وعن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا﴾  قلت: ما الفرق بين الرسول والنبيّ؟ قال: "النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول يعاين الملك ويكلِّمه، قلت: فالإمام ما منزلته؟ قال: يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين" .

وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ منّا لمن يعاين معاينة، وإنّ منّا لمن يُنقَر في قلبه كيت وكيت، وإنّ منّا لمن يسمع كما يقع السلسلة كله يقع في الطست". قلت: فالذين يعانيون ما هم؟ قال: "خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل" .


 
5- كتّاب الوحي:
كتَّاب الوحي كُثُر، أبرزهم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام, حيث حُظِيَ بكتابة الوحي من أوّل نزوله في مكة إلى حين انقطاعه, برحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: عن الإمام علي عليه السلام: "فما نزلتْ على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها فكتبتُها بخطي، وعلَّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصَّها وعامَّها" . وعنه عليه السلام - أيضاً -: "يا طلحة إنَّ كلَّ آية أنزلها الله على محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عندي بإملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخطي بيدي وتأويل كلّ آية" .

وممّن كتب الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أبي بن كعب الأنصاري: وهو أوّل من كتب له صلى الله عليه وآله وسلم الوحي في المدينة، وقد عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه القرآن كملاً، وكان ممّن حضر العرضة الأخيرة في من حضر، وتولّى الإشراف على الكَتَبَة في لجنة توحيد المصاحف على عهد عثمان، حيث كانوا يرجعون إليه عند الاختلاف .

- زيد بن ثابت: كان يسكن في المدينة بجوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ويكتب له صلى الله عليه وآله وسلم إذا غاب أُبَي بن كعب، حتى أصبح لاحقاً من الكتّاب الرسميين .

- والذي عليه المحقّقون من أهل السيرة: أنّ الوحي كان يكتبه الإمام علي عليه السلام, وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأنّ حنظلة بن الربيع ومعاوية بن أبي سفيان لم يكتبا الوحي وإنّما كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل، ويكتبان حوائجه بين يديه، ويكتبان ما يجيء من أموال الصدقات وما يقسّم في أربابها .


 
6- شبهات حول الوحي:
أ- الشبهة الأولى: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وليس وارداً عليه من الله تعالى, لاستحالة الاتّصال بين الله تعالى والإنسان, كونه يستلزم تحديد الله عزّ وجلّ! 

الجواب: إنّ عدم فهْم حقيقة الاتّصال الروحيّ الخفيّ بين المَلأ الأعلى وجانب الإنسان الروحي لا يعنى إنكار هذا الاتّصال، فالإنسان يتلقّى بروحه إفاضات تأتيه من ملَكوت السماء، وإشراقات نورية تشعّ على نفسه من عالَم وراء هذا العالم المادّي، وليس في ذلك اتّصالاً أو تقارباً مكانيّاً, لكي يستلزم تحيّزاً في جانبه تعالى. ولعلّ منشأ هذه الشبهة أنّهم قاسُوا من أمور ذاك العالم غير المادّي بمقاييس تخصّ العالم المادّي.

ب- الشبهة الثانية: من أين عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه مبعوث؟ 
الجواب: يجب على الله ـ وجوباً منبعثاً من مقام لُطفه ورأفته بعباده ـ أن يقرِن تنبيئه إنساناً بدلائل نيّرة، لا تدَع لمسارب الشكّ مجالاً في نفسه. وهذا هو مقتضى قاعدة اللطف، وتتلخّص في: تمهيد سبيل الطاعة, فواجب عليه تعالى أن يُمهِّد لعباده جميع ما يقرّبهم إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية، وهذا الوجوب منبعث من مقام حكمته تعالى, إذا كان يريد من عِباده الانقياد، وإلاّ كان نقضاً لغرضه من التكليف، ومن ثَمّ وجب عليه تعالى أن يبعث الأنبياء عليهم السلام, وينزّل الشرائع، ويجعل في الأمم ما ينير لهم درب الحياة، إمّا إلى سعادة, فباختيارهم، أو إلى شقاء, فباختيارهم أيضاً . وطبقاً لهذه القاعدة، لا يدع تعالى مجالاً لتدليس أهل الزَيغ والباطل، إلاّ ويفضحهم من فورهم. روي عن الإمام الصادق عليه السلام, أنّه سُئل عليه السلام: كيف عَلمت الرسُل أنَّها رسُل؟ قال: "كُشِفَ عنهم الغطاء" .

إذن، فلا بدَّ أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين انبعاثه نبيّاً على عِلم يقين، بل حقّ يقين من أمْره، لا يشكّ ولا يضطرب، مستيقناً، مطمئنّاً بالله، مَرعيّاً بعناية الله تعالى ولُطفه الخاصّ، منصوراً، مؤيَّداً، ولاسيَّما في بدْء البعثة، فيأتيه الناموس الأكبر وهو الحقّ الصِراح معايَناً مشهوداً، وهي موقعية حاسمة لا ينبغي لنبيّ أن يتزلزل فيها، أو يتروّع منها: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾.

وأيضاً فإنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يخترْه الله لنبوَّته إلاّ بعد أن أكمل عقله وأدَّبه، فأحسن تأديبه، وعرَّفه من أسرار ملكوت السماوات والأرض, ما يؤهّله للقيام بمهمَّة السفارة وتبليغ رسالة الله إلى العالمين, كما فَعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.

عن الإمام علي عليه السلام: "ولقد قرَنَ الله به من لدُن أن كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم, ليله ونهاره.." .

وعن الإمام العسكري عليه السلام: "فلمّا استكمل أربعين سنة، نظر الله عزّ وجلّ إلى قلبه، فوجده أفضل القلوب، وأجلها، وأطوعها، وأخشعها، وأخضعها، فأذن لأبواب السماء ففتحت، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها، وأذن للملائكة فنزلوا ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليهم، وأمر بالرحمة، فأنزلت عليه من لدن ساق العرش إلى رأس محمد وغمرته، ونظر إلى جبرئيل الروح الأمين المطوّق بالنور، طاووس الملائكة هبط إليه، وأخذ بضبعه وهزّه، وقال: يا محمد اقرأ. قال: وما أقرأ؟ قال: يا محمد ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثمّ أوحى (إليه) ما أوحى إليه ربّه عزّ وجلّ" .
 
ج- الشبهة الثالثة: هل يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ في ما يُوحى إليه؟ 

الجواب: إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُخطِئ في ما يُوحى إليه، ولا يلتبس عليه الأمر قطّ، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عندما يوحى إليه يُكشف عنه الغطاء، فيرى الواقعية في ما يتَّصل بجانب روحه الملكوتي، منقطعاً عن صوارف المادَّة، فيلمس حينذاك تجلّيات وإشراقات نورية تغشاه من عالم الملكوت, لينصرف بكلّيته إلى لقاء روح الله وتلقّي كلماته، فيرى حقيقة الحقّ النازل عليه بشعورٍ واعٍ وبصيرةٍ نافذة, كمَن يرى الشمس في وضَح النهار، لا يحتمل خطأً في إبصاره، ولا التباساً في ما يعِيه. وهكذا الوحي، إذ لم يكن فكرة نابعة من داخل الضمير, ليحتمل الخطأ في ترتيب مقدّمات استنتاجها، أو إبصاراً من بعيد, ليتحمَّل التباساً في الانطباق، بل هي مشاهدةُ حقيقةٍ حاضرة بعَين نافذة، فاحتمال الخطأ فيه مستحيل.

عن زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف لم يخفْ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ما يأتيه من قِبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال عليه السلام: "إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قِبل الله مثل الذي يراه بعينه" , أي: يجعله في وضَح الحقّ، لا غبار عليه أبداً، فيرى الواقع ناصعاً جلياً لا يشكّ ولا يضطرب في رأيه ولا في عقله.

ومن الأدلّة القرآنية على ذلك:
- عهد الله تعالى لنبيّه بالرعاية والحِفظ: ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾ ، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم في بدء نزول القرآن يخشى أن يفوته شيء، فكان يساوق جبرائيل عليه السلام في ما يلقي عليه كلمة بكلمة، فنُهِيَ عن ذلك: 
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ 
 
وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ، و﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ .

- قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ، فإنّه يقطع أيّ احتمال للدسّ والتزوير في نصوص القرآن الكريم.

- استحالة تلبيس إبليس وتدخّله في ما يُوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وجعل تسويلاته الشيطانية في صورة 
وحي يلتبس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرها، فيظنّها وحياً, لأنَّ الشيطان لا يستطيع الاستحواذ على عقلية رسُل الله وعباده المكرَمين: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ ، ومتنافٍ مع قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ  * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ ، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ ، وقوله تعالى - حكاية عن قول إبليس -: ﴿وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ .

أضف إلى ذلك أنّ هذا الخطأ المحتمل في تلقّي الوحي وتبليغه إلى الناس متنافٍ مع قاعدة اللطف الآنفة الذكر، ومتناقض مع حكمته تعالى في بعْث الأنبياء عليهم السلام.
 


الأفكار الرئيسة
1- الوحي صلة وصل بين الله تعالى وخلقه, يُكشَف لهم من خلاله عن المعارف الإلهية والحقائق الربّانية اللازمة لرفع الاختلاف الحاصل بالفطرة، والوصول إلى سعادة النوع الإنساني.

2- يمتلك الإنسان وراء شخصيَّته المادّيّة الظاهرة شخصيَّة أخرى معنوية باطنة، من شأنها أن تتيح له الارتباط بعالم معنوي أعلى مجرّد عن المادّة ولوازمها.

3- الوحي إدراك خاصّ مختلف عن سائر الإدراكات البشرية المشتركة بين كافّة أفراد البشر والمتحصّلة عن طريق الحسّ أو العقل أو الغريزة أو الوجدان، يوجده الله تعالى في أنبيائه عليهم السلام إيجاداً لا يعتريه لبس أو شكّ أو خطأ، ولا يحتاجون فيه إلى إعمال نظر أو توسّل دليل...

4- الوحي مختصّ بالأنبياء عليهم السلام, وقد انقطع بعد رحيل خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

5- من كتّاب الوحي: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام, وأبي بن كعب الأنصاري، وزيد بن ثابت...

6- من الشبهات المثارة حول الوحي: هو عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم! من أين عرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه مبعوث! هل يجوز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخطأ في ما يُوحى إليه؟

 


مطالعة

بطلان دعوى كتابة معاوية للوحي 
إنّ الناس يشبّه عليهم أمر معاوية بأن يقولوا كان كاتب الوحي، وليس ذاك بموجب له فضيلة, وذلك أنّه قُرِنَ في ذلك إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكانا يكتبان له الوحي، وهو الذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله... فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُملي عليه: والله غفورٌ رحيم، فيكتب: والله عزيزٌ حكيم، ويملي عليه: والله عزيزٌ حكيم، فيكتب: والله عليم حكيم، فيقول له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو واحد. فقال عبد الله بن سعد: إنّ محمداً لا يدري ما يقولُ. إنّه يقول، وأنا أقول غير ما يقول، فيقول لي: هو واحد، هو واحد. إن جاز هذا, فإنّي سأنزل مثل ما أنزل الله. فأنزل الله فيه: ﴿وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ...﴾  ، فهرب وهجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من وجد عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة, فليقتله، وإنّما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له في ما يغيّره هو واحد، هو واحد, لأنّه لا ينكتب ما يريده عبد الله، إنّما ينكتب ما كان يُمليه، فقال: هو واحد غيّرتَ أمْ لَمْ تغيّر، لَمْ ينكتبْ ما تكتبه، بل ينكتب ما أمليه عن الوحي وجبرائيل يصلحه.

وفي ذلك دلالة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم, ووجه الحكمة في استكتابه صلى الله عليه وآله وسلم الوحي معاوية وعبد الله بن سعد، وهما عدوّان له صلى الله عليه وآله وسلم: هو أنّ المشركين قالوا: إنّ محمداً يقول هذا القرآن من تلقاء نفسه، ويأتي في كلّ حادثة بآية يزعم أنّها أنزلت عليه، وسبيل من يضع الكلام في حوادث، يحدث في بعض الأوقات أن يغيّر عليه الألفاظ عن حاله الأولى لفظاً ومعنى أو لفظاً دون معنى، فاستعان في كتابة ما ينزل عليه في الحوادث الواقعة بعدوَّين له في دينه، عدلَين عند أعدائه, ليعلم الكفّار والمشركون أنّ كلامه في ثاني الأمر كلّه في الأوّل غير مغيّر، ولا مزال عن جهته, فيكون أبلغ للحجّة عليهم، ولو استعان في ذلك بوليِّيَن، مثل: سلمان، وأبي ذر، وأشباههما, لكان الأمر عند أعدائه غير واقع هذا الموقع، وكانت تتخيّل فيه التواطؤ والتطابق. فهذا وجه الحكمة في استكتابهما واضح بيّن.

 


المصادر والمراجع


1- القرآن الكريم.
2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص112-12
3- الطباطبائي، القرآن في الإسلام، ص96-106.
4- ابن بابويه، التوحيد، باب معنى قوله عزّ وجلّ: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي...﴾، ح6، ص172.
5- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص90-93، 108-131.
6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ج1، الخطبة192(القاصعة)، ص157, ج2، الخطبة235، ص228.
7- الكليني، الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل، باب اختلاف الحديث، ح1، ص64, كتاب الحجّة، باب فيه ذِكر الصحيفة...، ح 5، ص 241.
8- الهلالي، كتاب سليم بن قيس، ص211.
9- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص340-341، 358-362.
10- العسقلاني، الإصابة، ص180-182، 490-493.
11- الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد، ج1، الخطبة25، ص338.
12- الحلي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص444-445.
13- البرقي، المحاسن، كتاب العلل، ح85، ص328.
14- تفسير الإمام العسكري عليه السلام, ح78، ص156-157.
15- العياشي، تفسير العياشي، ج2، تفسير سورة يوسف، ح106، ص201.
16- الصفّار، بصائر الدرجات، م. س، ج 5، باب 7، ح 1، ص 251, ج 8، باب 1، ح 1 – 2، ص 388.
 

2020-11-23 | 810 قراءة