1- لغة القرآن:
إنّ لغة القرآن هي اللغة العربية، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بعدّة تعابير، من قبيل: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ، و﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ﴾ ، و﴿حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ .
وأمّا اختيار اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم, فيعود إلى نكات دقيقة، أبرزها التالي:
أ- جاء نزول القرآن باللغة العربية استناداً إلى أصل عامّ وسنّة إلهية في الإنذار والتبشير، مفادها: اتّحاد لغة كلّ رسول مع لغة قومه. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...﴾ . وهذه القاعدة العامّة في إرسال الرسل، تنطبق أيضاً على إنزال الكتب السماوية. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا...﴾.
ومن هذا المنطلق، فإنّ نزول القرآن باللغة العربية أمر طبيعي موافق للسنّة الإلهية في الإنذار والتبشير. وهذا لا يتنافى مع رسالة الإسلام العالمية، ودعوته العامّة على مدى العصور والأجيال، ولا مع ما جاء به القرآن من هداية عامّة لكافّة الناس، بقوله تعالى: ﴿هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ . وأمّا إنذار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة، الذي ورد في سورة الشورى، فلم يكن إلا لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان في المراحل الأولى من حركته العالمية، مكلّفاً بدعوة قومه وهداية أبناء بيئته. ومن غير المعقول أن يُؤمَر صلى الله عليه وآله وسلم بإرشاد الناس وهدايتهم، ثمّ يعرض عليهم كتاباً بلغة غريبة عنهم.
ب- يرى علماء اللغة أنّ اللغة العربية تمتاز عن اللغات الأخرى بأنّها واسعة جدّاً: ولها قدرة عالية على حكاية المفاهيم المعنوية العالية والسامية التي يطرحها القرآن، أكثر من غيرها من اللغات الأخرى. تتميّز اللغة العربية عن اللغات الأخرى بكثرة المفردات، واشتقاق الكلمات، ووفرة قواعدها، وفصاحتها، وبلاغتها...
وقد اختار الله تعالى اللغة العربية لتكون لغة للقرآن الكريم، حيث قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ .
وهاتان الآيتان تكشفان عن حقيقة أنّ إكساء القرآن باللغة العربية مُسنَد إلى الله تعالى، وهو الذي أنزل معنى القرآن ومحتواه بقالب اللفظ العربي, ليكون قابلاً للتعقّل والتأمّل. وفي الآية الواردة في سورة الزخرف يقول تعالى - بعد بيان أنّ لغة القرآن هي العربية -: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. وفي ذلك دلالة ما على أنّ لألفاظ الكتاب العزيز من جهة تعيّنها, بالاستناد إلى الوحي، وكونها عربية, دخلاً في ضبط أسرار الآيات وحقائق المعارف. ولو أنّه تعالى أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعناه، وكان اللفظ الحالي له هو لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم, كما في الأحاديث القدسية - مثلاً - أو تُرجِم إلى لغة أخرى, لخفي بعض أسرار آياته البيّنات عن عقول الناس ولم تنله عقولهم وأفهامهم .
ج- أكّد القرآن الكريم على صفة كونه بلسان عربي في وجه مَنْ زعموا أنّ هناك شخصاً يعلّم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القرآن: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾ . ويُراد بـ "أعجمي": أنّه غير صحيح، فـ"الإعجام: الإبهام. والعجم خلاف العرب، والعجمي منسوب إليهم. والأعجم: مَنْ في لسانه عجمة، عربياً كان، أم غير عربي" .
وورد في حديث جاء جواباً عن معنى ﴿لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ﴾: "يبيّنُ الألسُنَ، ولا تبيّنهُ الألسُنُ" .
ومن هنا، فالمراد بالعربية هو: بيان حقيقة أنّ اللغة العربية لغة الفصاحة والوضوح والخلو من التعقيد والإبهام، في مقابل الأعجمي المبهم وغير الواضح والمعقّد، وقد اختارها الله تعالى ليبيّن بها معارف وحقائق راقية, بلغة فصيحة وبليغة.
د- اللغة العربية لغة توحيديّة: إنّ اللغة العربية تتناسب مع الهدف القرآني الأسمى وهو التوحيد, حيث لا يوجد في تأليف القضية في اللغة العربية سوى طوفان فقط هما: الموضوع والمحمول، وهما متّحدان ذاتاً يرجعان إلى وحدة ذاتية ومغايرة اعتبارية مفاهيمية، وهذا ما يجعل من القضايا في اللغة العربية قضايا توحيدية تؤشر على الهدف القرآني الأسمى وهو التوحيد، في حين أنّ القضايا في اللغات الأخرى تحتاج إلى رابط بين الموضوع والمحمول فلا بدّ لها من ثلاثة أطراف حتى تفيد معنى مفيداً. ولعلّ هذه إحدى النكات الدقيقة في اختيار اللغة العربية لتكون لغة القرآن الكريم.
2- نشأة علوم القرآن وتاريخها:
اهتمّ المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعلّم القرآن, تلاوة وفهماً. وكانوا يرجعون إليه صلى الله عليه وآله وسلم في استجلاء ما يُشكَل عليهم فهمه، أو ما يحتاجون فيه إلى مزيد من التفصيل والشرح. فكانت علوم القرآن تُؤخَذ وتُنقَل عادة بالتلقين والمشافهة. وبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وتوسّع الفتوحات الإسلامية، لاحت بوادر تدعو إلى الخوف على القرآن, نظراً إلى بُعد العهد بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نسبياً، واختلاط العرب بشعوب أخرى، لها لغاتها وطريقتها في التكلّم والتفكير، فبدأت بفعل ذلك حركة نشطة نسبياً بين المسلمين لضبط علوم القرآن، ووضع الضمانات اللازمة لوقاية القرآن وصيانته عن التحريف .
وقد سبق الإمام علي عليه السلام (ت: 40هـ) غيره في الإحساس بضرورة اتّخاذ هذه الضمانات، فانصرف عقيب رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة إلى جمع القرآن, عملاً بوصية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاه بها قبل رحيله صلى الله عليه وآله وسلم, فبعد أن رأى من الناس بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما رأى، أقسم أنّه لا يضع عن عاتقه رداءه حتى يجمع القرآن, فجلس في بيته ثلاثة أيام, حتّى جمع القرآن .
وكان الإمام علي عليه السلام من روّاد التفسير وعلوم القرآن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, حتى أنّ شخصية تفسيرية يُشهَد لها في هذا المجال, كابن عباس أخذ تفسير القرآن عنه . ويُعدّ الإمام عليه السلام أوّل من صنّف في علوم القرآن، ومن بين ما صنّف: كتاباً في المحكم والمتشابه .
ومن الصحابة: الذين لمع اسمهم في التفسير والقراءات: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبَي بن كعب، حيث كان لديهم مكانة رفيعة بين المسلمين في تعليم القرآن.
ومن الجهود المبذولة التي قام بها المسلمون بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم, في مجال تدوين بعض علوم القرآن, كعلم إعراب القرآن وعلم القراءات: تدوين علم إعراب القرآن تحت إشراف الإمام علي عليه السلام, إذ أمر بذلك أبا الأسود الدؤلي (ت: 69هـ) وتلميذه يحيى بن يعمر العدواني (ت: 89هـ) رائدَي هذا العلم والواضعَين لأُسسه، فإنّ أبا الأسود هو أوّل من وضع نقط المصحف . وكان يحيى بن يعمر أوّل من دوّن في القراءة، حيث صنّف كتابه فيها أواخر القرن الأوّل الهجري .
ومن هذا المنطلق، فإنّ الخوف على سلامة القرآن من الضياع أو التحريف، والتفكير في وضع الضمانات اللازمة لصيانته، بدأ في ذهن الواعين من المسلمين، عقيب رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وأدّى إلى القيام بمختلف النشاطات في هذا الصدد. وكان من نتيجة ذلك بدء ظهور علوم القرآن.
3- تعريف علوم القرآن:
هي عبارة عن مجموع القضايا والمباحث التي تتعلّق بالقرآن الكريم بلحاظ نزوله، وترتيبه، وجمعه، وكتابته، وقراءته، وتفسيره، وإعجازه، وناسخه، ومنسوخه، ودفع الشبهة عنه، ونحو ذلك .
وتختلف هذه العلوم في لحاظ تناولها للكتاب الكريم، فالقرآن له لحاظات متعدّدة، وهو بكلّ واحدة من تلك اللحاظات موضوع لبحث خاصّ تشكّل مسائله علماً خاصّاً من علوم القرآن الكريم. وأهمّ تلك اللحاظات: لحاظ القرآن بوصفه كلاماً دالاً على معنى. والقرآن بهذا الوصف هو موضوع لعلم التفسير. فعلم التفسير يشتمل على دراسة القرآن, باعتباره كلاماً ذا معنى، فيشرح معانيه، ويكشف عن مدلولاته ومقاصده. ولأجل ذلك كان علم التفسير من أهمّ علوم القرآن، وعلى رأسها، حتى بات منفصلاً عنها في دراسة الباحثين فيه, لأهمّيّته، فضلاً عن أنّ معطيات علوم القرآن الأخرى تدخل فيه, بوصفها مدخلات مساعدة في العملية التفسيرية التي يحتاجها المفسّر في الكشف عن معاني القرآن وفهم مدلولاته ومقاصده.
ومن هذا المنطلق، فإنَّ مراد الباحثين من "علوم القرآن" هو جميع المعلومات ذات السنخ الواحد، التي تدخل في فهم القرآن على نحو أفضل، أو لها صلة بالقرآن. وبما أنّ القرآن ذو جوانب متعدّدة، فقد أدّى السعي إلى فهم كلّ واحد منها، منذ البداية وإلى حدّ الآن، إلى نشوء علوم مختلفة، مثل: علم أسباب النزول، وعلم القراءات، وعلم التجويد، وعلم الناسخ والمنسوخ. وعلى صعيد آخر، بما أنّ كلّ هذه العلوم تهتمّ بموضوع واحد، وهو "القرآن"، فقد أطلق الباحثون على مجموع هذه العلوم اسم "علوم القرآن" .
4- موضوع علوم القرآن:
إذا ما نظرنا إلى علوم القرآن بالمعنى الإضافي, بصفتها علوماً لها لحاظات متعدّدة، فإنّ موضوع علوم القرآن حينها يكون: القرآن الكريم بلحاظ تفسيره، أو رسمه، أو طريقة أدائه، أو إعجازه، وهكذا...
وإذا ما نظرنا إلى هذه العلوم بكلّ أصولها ومباحثها ومسائلها, بلحاظ كونها مجتمعة في كتاب واحد وتحت عنوان واحد "علوم القرآن", بحيث صار هذا العنوان علماً ولقباً لهذه المباحث المدوّنة في موضع واحد، بعد أن كانت مبعثرة في عشرات الكتب، وصار علماً واحداً بعد أن كان جملة من العلوم, فإنّ موضوع علوم القرآن حينها يكون: القرآن الكريم بلحاظ تفسيره، ورسمه، وطريقة أدائه، وإعجازه، وهكذا...، بخلاف علوم القرآن بالمعنى الإضافي، فإنّ موضوع كلّ علم منها إنّما هو القرآن الكريم من هذه الناحية فحسب .
5- فائدة دراسة علوم القرآن:
إنّ لدراسة علوم القرآن فوائد وآثار عدّة، أبرزها:
أ- الإعانة على دراسة القرآن الكريم وفهمه حقّ الفهم، واستنباط الأحكام والآداب منه, إذ كيف يتأتّى لدارس القرآن ومفسّره أن يتوصّل إلى إصابة الحقّ والصواب، وهو لا يعلم كيف نزل؟! ولا متى نزل؟! وعلى أيّ حال كان ترتيب سوره وآياته؟! وبأي شيء كان إعجازه؟! وكيف ثبت؟! وما هو ناسخه ومنسوخه؟!... إلى غير ذلك ممّا يُذكَر في علوم القرآن, وإلا كان عرضة للزلل والخطأ. فهذا العلم بالنسبة للمفسّر بمثابة المفتاح لباب التفسير.
ب- الدفاع عن الدين من خلال دفع شبهات بعض المستشرقين وهجماتهم على القرآن والإسلام, بالاستفادة من علوم القرآن الكريم التي لها دور بارز ومهمّ في تفنيد هذه الشبهات ودحضها.
ج- إنّ الدارس لهذا العلم يكون على حظّ كبير من العلم بالقرآن، وبما يشتمل عليه من أنواع العلوم والمعارف، ويُحظى بثقافة عالية وواسعة في ما يتعلّق بالقرآن الكريم، وإذا كانت العلوم ثقافة للعقول، وصلاحاً للقلوب وتهذيباً للأخلاق، وإصلاحاً للنفوس والأكوان، وعنوان التقدّم والرقي، وباعثة للنهضات, ففي القمة - من كلّ ذلك - علوم القرآن. فالقرآن أحسن الحديث، وأصدقه، وعلومه أشرف العلوم وأوجبها على كلّ مسلم أيّاً كان تخصّصه، وأيّاً كانت حرفته .
6- تدوين علوم القرآن:
بدأ عهد تدوين تفسير القرآن منذ القرن الثاني الهجري. ومن بعد ذلك كثُرت المصنّفات التي تناولت القرآن الكريم, تفسيراً وبحثاً في موضوعات متعدّدة، من قبيل: المحكم والمتشابه، والقراءات، والناسخ والمنسوخ... فظهرت في القرن الأوّل الهجري مدوّنات من قبيل: كتاب "القراءة" ليحيى بن يعمر(ت: 89هـ) وهو أحد تلاميذ أبي الأسود الدؤلي...
وفي القرن الثاني دوّن أبان بن تغلب (ت: 141هـ) أحد أصحاب الإمام السجّاد عليه السلام كتاباً في القراءات، وكذلك ألّف حمزة بن حبيب (ت: 156هـ), وهو أحد القرّاء السبعة ومن أصحاب الإمام جعفر الصادق عليه السلام, كتاباً في القراءة... وفي القرن الثالث ألّف أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري شيخ القميين ووجههم (ت: 250 هـ) كتاباً في الناسخ والمنسوخ... وفي القرن الرابع ألّف ابن دريد (ت: 321هـ), وهو نحوي ولغوي معروف، ومن كبار أدباء الشيعة، كتاباً في غريب القرآن... وفي القرن الخامس صنّف الشيخ المفيد (ت: 413هـ) كتاباً في إعجاز القرآن، وألّف الشريف المرتضى (ت: 436 هـ) كتاباً في المحكم والمتشابه... وفي القرن السادس ألّف الراغب الأصفهاني (ت: 502هـ) كتاباً في غريب القرآن، وصنّف الشيخ الطبرسي (ت: 548هـ) تفسيره القيّم "مجمع البيان"... .
وتجدر الإشارة إلى أنّ مصطلح علوم القرآن بصيغته المعروفة حالياً، يختلف عمّا كان مصطلحاً عليه في القرون الأولى.
فقد كان مصطلح علوم القرآن يُطلق في الماضي على البحوث التفسيرية أيضاً. والحقيقة هي: أنّ علم التفسير كان يدخل في عداد علوم القرآن - كما تقدّم ذكره -، مثله في ذلك مثل: علم إعجاز القرآن، وعلم تاريخ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وما شابه ذلك، بيد أنّ كثرة المباحث وتنوّعها أدّت إلى نشوء نوع من الحدود بين مباحث العلوم القرآنية وعلم التفسير.
وذهب بعض الباحثين إلى أنّ: المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أنّ أوّل عهد ظهر فيه هذا الاصطلاح إلى اصطلاح علوم القرآن، هو القرن السابع، لكنّي ظفرت في دار الكتب المصرية بكتاب لعلي بن إبراهيم بن سعيد الشهير بـ "الحوفي" المتوفى سنة430هـ اسمه "البرهان في علوم القرآن"، ويقع في ثلاثين مجلداً... وإذن نستطيع أن نتقدّم بتاريخ هذا الفنّ نحو قرنين من الزمان: أي إلى بداية القرن الخامس...، ثمّ تطوّرت عملية التدوين مع ابن الجوزي (ت: 597هـ)، والسخاوي (ت: 643هـ)، وأبي شامة (ت:665هـ) في القرنين السادس والسابع، ثمّ الزركشي (ت: 794هـ) في القرن الثامن، ثمّ الكافيجي (ت: 879هـ)، وجلال الدين البلقيني (ت: 824هـ) في القرن التاسع، ثمّ مع جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) في نهاية القرن التاسع وبداية العاشر .
وقد بدأ تدوين علوم القرآن بشكل جامع منذ القرن الثامن بتأليف كتاب "البرهان في علوم القرآن" لأبي عبد الله الزركشي. وكانت شمولية كتابه لأنواع علوم القرآن لا نظير لها حتى ذلك العهد، حتى أنّ السيوطي أعرب عن تعجّبه من المتقدّمين, إذ لم يدوّنوا كتاباً في أنواع علوم القرآن، ولكنّه أبدى السرور والانشراح بعد اطّلاعه على كتاب البرهان، وخطر له أن يؤلّف كتاباً مبسوطاً في هذا المجال سمّاه "الإتقان في علوم القرآن" . ويعدّ كتاب "الإتقان في علوم القرآن" من أهمّ مصادر علوم القرآن. ومن أبرز المصادر التي اعتمد عليها السيوطي: كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي. وفي أعقاب كتاب الإتقان انحسر ازدهار التأليف والتدوين في علوم القرآن إلى حين، وجاءت أكثر المؤلّفات في مواضيع معيّنة، وقلّ بعدها التوجّه نحو علوم القرآن.
وقد أُلِّفَت في القرن الأخير مؤلّفات قيّمة في علوم القرآن، يمكن أن نذكر منها ما يلي: "مناهل العرفان في علوم القرآن" لعبد العظيم الزرقاني، و"مقدّمة تفسير آلاء الرحمن" للشيخ محمد جواد البلاغي، و"مباحث في علوم القرآن"، للدكتور صبحي الصالح، و"منهج الفرقان في علوم القرآن" لمحمد علي سلامة، و"تاريخ القرآن" لأبو عبد الله الزنجاني، و"البيان في تفسير القرآن" للسيد أبو القاسم الخوئي، و"القرآن في الإسلام" للسيد محمد حسين الطباطبائي ، و"التمهيد في علوم القرآن" للشيخ محمد هادي معرفة، وغيرها من الكتب ...
الأفكار الرئيسة
1- إنّ لغة القرآن هي اللغة العربية، وقد اختارها الله تعالى لتكون لغة القرآن لعدّة نكات لطيفة ودقيقة.
2- اهتمّ المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعلّم القرآن, تلاوة وفهماً.
3- كان الإمام علي عليه السلام من روّاد التفسير وعلوم القرآن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومن الصحابة الذين لمع اسمهم في التفسير والقراءات: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأُبي بن كعب...
4- علوم القرآن هي: مجموع القضايا والمباحث التي تتعلّق بالقرآن الكريم بلحاظ نزوله، وترتيبه، وجمعه، وكتابته، وقراءته، وتفسيره، وإعجازه، وناسخه، ومنسوخه، ودفع الشبهة عنه، ونحو ذلك.
5- موضوع علوم القرآن بالمعنى الكلّي: القرآن الكريم بلحاظ تفسيره، أو رسمه، أو طريقة أدائه... وبالمعنى الإضافي: القرآن الكريم بلحاظ تفسيره، ورسمه، وطريقة أدائه...
6- من فوائد دراسة علوم القرآن: الإعانة على دراسة القرآن وفهمه، والدفاع عن الدين...
7- بدأ عهد التدوين بداية القرن الخامس، ثمّ تطوّر في القرون اللاحق حتى بداية القرن العاشر.
مطالعة
طريق الاستفادة من القرآن الكريم
لا بدّ لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهمّ يَكشِفُ لكَ بالتوجّه إليه طريقَ الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم, وهو: أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهي نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة وترى نفسك موظّفة على التعلّم والاستفادة، وليس مقصودنا من التعليم والتعلم والإفادة والاستفادة أن تتعلم منه الجهات الأدبية والنحو والصرف، أو تأخذ منه الفصاحة والبلاغة والنكات البيانية والبديعية، أو تنظر في قصصه وحكاياته بالنظر التاريخي والاطّلاع على الأمم السالفة، فإنّه ليس شيء من هذه داخلاً في مقاصد القرآن، وهو بعيد عن المنظور الأصلي للكتاب الإلهي بمراحل.
وليس مقصودنا من هذا البيان الانتقاد للتفاسير, فإنّ كلّ واحد من المفسّرين تحمّل المشاق الكثيرة والأتعاب التي لا نهاية لها حتى صنف كتاباً شريفاً، فلله درّهم، وعلى الله أجرهم، بل مقصودنا هو: أنّه لا بدّ وأن يُفتَح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف, الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله والكتاب الأحدي في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهية، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبية. فعلى العلماء والمفسرين أن يكتبوا التفاسير، وليكن مقصودهم: بيان التعاليم والمقرّرات العرفانية والأخلاقية، وبيان كيفية ربط المخلوق بالخالق، وبيان الهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود على نحو ما أُودِعَت في هذا الكتاب الشريف، فصاحب هذا الكتاب ليس هو السكاكي, فيكون مقصده جهات البلاغة والفصاحة، وليس هو سيبويه والخليل, حتى يكون منظوره جهات النحو والصرف، وليس المسعودي وابن خلكان, حتى يبحث حول تاريخ العالم.
هذا الكتاب ليس كعصي موسى عليه السلام ويده البيضاء، أو نفس عيسى عليه السلام الذي يحيي الموتى, فيكون للإعجاز فقط، وللدّلالة على صدق النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, بل هذه الصحيفة الإلهية كتاب إحياء القلوب بالحياة الأبدية العلمية والمعارف الإلهية. هذا كتاب الله يدعو إلى الشؤون الإلهية، فالمفسّر، لا بدّ وأن يعلم الشؤون الإلهية، ويُرجِع الناس إلى تفسيره, لتعلّم الشؤون الإلهية, حتى تتحصّل الاستفادة منه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا﴾ . فأيّ خسران أعظم من أن نقرأ الكتاب الإلهي منذ ثلاثين أو أربعين سنة، ونراجع التفاسير، ونحرم مقاصده: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .
المصادر والمراجع
1- القرآن الكريم.
2- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج11، ص75.
3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص549
4- الكليني، الكافي، ج2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ح20، ص632.
5- الحكيم، علوم القرآن، ص19-22.
6- ابن النديم، كتاب الفهرست، ص30.
7- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص157.
8- الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج20، ص155.
9- الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج4، ص81-84.
10- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج1، ص16-25، 36-38.
11- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1، ص27-28، 35-39.
12- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج1، ص19، 24-25.
13- الرومي، دراسات في علوم القرآن، ص47-48.