أ- تركيز الحواس
إن تركيز الحواس في الواقع عمل يعتمد على الاستخدام المركز للحافظة، بحيث لو أن شخصا أراد توجيه كل حواسه وذهنه إلى قلب أي موضوع أو قضية يريد تثبيتها في ذاكرته، يمكنه أن يدخر ذلك الموضوع أو المتن في ذهنه براحة أكثر ويكون موفقاً في ذلك.
وهنا يشار إلى لفتة علمية في ما يخص شكل حافظة الإنسان، هي إن الحافظة أو الذاكرة في المخ هي على شبه مكانين للتخزين حيث ترد جميع المعلومات التي يحفظها الإنسان إلى المخزن الأول، وتثبت هناك أولاً، ثم المخزن الثاني الذي هو محل الحفظ النهائي لها.
وهذا معناه، أنه إذا لم تنتقل هذه المعلومات إلى المخزن الثاني، بعد حفظها في المخزن الأول، فإنها تحذف كلياً أو جزئياً، وانتقالها إلى المخزن الثاني سبب لأن تحفظ بشكل دائم. وعليه نستنتج، أنه ينبغي على الحفاظ المحترمين، بالنسبة لحفظ دروسهم، أن يتمرنوا على حفظ المعلومات من خلال الممارسة والبرمجة، لانتقالها من المخزن الأول إلى المخزن الثاني، لتثبت هناك بشكل دائم.
ينبغي لحصول التركيز أثناء الحفظ الالتفات إلى المسائل التالية:
المسألة الأولى:
الاستفادة من المصاحف التي لها شكل خط واحد (ثابت)، أي أن لا يتم تغيير نوع الخط، ويستمر عليه ابتداءً من الأيام الأولى وحتى الانتهاء من الحفظ، وكذلك عند المراجعة ومذاكرة المحفوظات. لذلك فإن إتباع شكل واحد للخط خلال فترة الحفظ له دور فعال جداً في تركيز الحواس.
والسر في هذا الأمر، بالإضافة إلى أن المهتم بالحفظ أصبح عارفاً ومنسجماً مع نوع واحد من الخط، يستطيع تركيز حواسه ويحفظ موقع كتابة الآية في الصفحة. وعليه فإن هذه المسالة مهمة جدا في ادِّخار الآيات وإعادة تذكرها.
فلو عرفت أن الآية التي حفظتها هي في أسفل الصفحة أم أعلاها أم على اليمين أو الشمال، فيكون من السهل عليك استذكارها.
المسألة الثانية:
اتخاذ مكان ثابت للجلوس في أثناء القيام بالحفظ، وهذا الأمر مفيد جداً في تركيز الذهن. مثل المكان الهادئ والبعيد عن الضجة. والمقصود من المكان الهادئ أمرين:
1- المكان الثابت هنا، يعني عدم ممارسة الحفظ أثناء الحركة، كأن نركب حافلة أو عند السير في الشارع: ما يعني انه لم نتخذ وقتاً مناسباً لحفظ القرآن الكريم فمكان الحفظ ينبغي أن يكون ثابتاً.
2- والأمر الآخر، لا ينبغي تغيير مكان الحفظ، بمعنى أن نعوّد أنفسنا على اتخاذ مكانٍ خاصٍ لحفظ الآيات الكريمة.
ومثال على ذلك: أن يعتاد شخص على القيام بالحفظ في غرفة خاصة من البيت وفي وقت محدد، وهنا ينبغي عليه أن لا يغيّر هذا المكان.
لأنه عندما يتعود الإنسان من الناحية النفسية على الإتيان بعمل خاص في مكان محدد، فسيحصل له توجه واهتمام بذلك العمل شاء أم لا. وباصطلاح علماء النفس يصبح شرطاً (من الانعكاس الشرطي) (45).
وفي النتيجة، بقدر ما يحصل مزيد من التركيز، يستطيع الحفاظ بسهولة أكبر حفظ الآيات.
ولذلك ينبغي عدم تغيير المكان. فلا يكون الحفظ مثلاً يوما في المسجد ويوماً في البيت وآخر في المدرسة.
ملاحظة: ينبغي أن يكون مكان الحفظ قدر الإمكان سهلاً وبعيداً عن الوسائل التي تشتت ذهن الإنسان.
المسألة الثالثة:
في خصوص مسألة تركيز الحواس، من الأفضل الاستفادة من وقت ثابت وعدم تغييره لتطوير وتنشيط مستوى الحفظ. أي انتخاب الوقت الذي يطغى عليه السكون وأكثر بعداً عن الضجة. (كما في أول النهار أو أواخر الليل) فالضجيج فيه أقل من غيره من الأوقات والأهم من كل ذلك، الوقت الخاص للحفظ وعدم تغييره.
وهذه المسألة لها تأثير أيضاً على روحية الإنسان، فالذي يستمر على هذه العادة ويحافظ على وقت محدد في حفظ القرآن فسيكون موفقاً أكثر.
فمثلاً عندما يتعود الإنسان على تناول غدائه أو عشائه بعد صلاة الظهر أو العشاء، فلو ترك هذا الأمر لأي سبب كان، فإنه سيشعر بالتعب، وهذه هي العادة نفسها. وعليه فعند البحث والتخطيط للوقت، ينبغي أخذ هذه الفرضية بعين الاعتبار.
المسألة الرابعة:
من المواضيع الأخرى المساعدة على التركيز الذهني وتمركز الحواس، هي الاعتماد وبشكل دائم، على شريط (كاسيت) وقارئ واحد. وسنشير إلى هذا الأمر عند البحث في مراحل الحفظ.
كما أصبح واضحا لديكم، فإن الاستماع إلى كاسيت ترتيل هو إحدى المراحل المتقدمة في الحفظ. لذلك ينبغي قدر الإمكان التعوّد على قارئ محدد ونمط واحد من الترتيل، ولا ينبغي تغييره في كلّ مراحل الحفظ.
فلو بدأت مثلا عملية الحفظ مع صوت قارئ مشهور مثل برهيزكار أو المنشاوي أو الحصري أو القراء الآخرين، وتقدمت على هذا المنوال، فعليك المتابعة بهذه الطريقة حتى إنهاء كل مراحل الحفظ، لأن الاستفادة من قارئ واحد والاستماع الدائم إلى لحن القارئ المذكور مؤثر جدًا في تقدم عملية الحفظ، كما أنه مؤثر أيضاً في تثبيت الآيات والسور القرآنية في الذهن.
تركيز الحواس على:
أ : رسم خط ثابت.
ب: مكان ثابت وهادئ.
ج: وقت محدد يغمره الهدوء.
د: الاستفادة من كاسيت قارئ واحد.
ب- التجويد والقراءة والترتيل:
بعد أن عرضنا المسائل المتعلقة بالتركيز (تركيز الحواس)، ننتقل إلى النقطة الأخرى من مقدمات حفظ القرآن الكريم، وهي الموضوع المتعلق بعلم التجويد، وترتيل الكتاب الحكيم.
بعبارة أخرى على الحافظ للقرآن الكريم أن يكون على علم بكيفية قراءة الآيات وقواعد حفظها، وأن يعرف صفات الحروف، بحيث يستطيع تلاوة جزء واحد خلال 40 دقيقة.
والسبب أننا نعتبره من مقدمات حفظ القران الكريم، إذْ أنَّ الحافظ الذي يقدم على الحفظ بدون معرفة التجويد أو الترتيل، من الممكن أن يحفظ الكثير من الآيات بطريقة خاطئة. فأحياناً يتم حفظ الآيات لكن مع أخطاء في التجويد، ويصعب كثيراً بعد ذلك تصحيح هذه الأخطاء التي ركزت في الذهن.
لذلك أصبح معلوماً أن القراءة الصحيحة للقرآن الكريم (أي التجويد) مقدمة مهمة للحفظ السليم للآيات والسور القرآنية، فعلى الحفاظ المحترمين الاهتمام بهذا الأمر قبل الولوج في عالم الحفظ.
ملاحظة:
إن تطبيق القاعدة أعلاه بشكل جزئي غير قابل للتطبيق مع الأطفال وصغار السن، وهؤلاء مستثنون من هذه القاعدة، لأن نمط حفظهم متفاوت. سنبين في الفصل الرابع من الكتاب وفي موضوع « قواعد تعليم القرآن الكريم»، بعض النكات الراجعة إلى الطرق الخاصة بحفظ الأطفال والصغار.
ج- التخطيط الواقعي:
إن البرمجة الواقعية والإدارة السليمة لدورة حفظ بأكملها، هي من مقدمات حفظ القرآن الكريم. لذلك نعتقد، لو أن شخصاً حفظ كل أسبوع ثلاث صفحات، فسيحفظ القرآن خلال أربع سنوات: ولو حفظ أسبوعيا 4 صفحات من الكتاب الحكيم فسيكون حافظاً للقرآن خلال 3 سنوات: وهكذا لو حفظ 5 صفحات فسيكون حافظاً لكل القرآن الكريم خلال سنتين ونصف.
من المعروف أن عدد صفحات القرآن الكريم بناء لخط عثمان طه هي 604 صفحات. وعليه يُطرح هنا أن الدقة في البرمجة، وتبنّي إحدى الخيارات السابقة، وتحديد الوقت أو المقدرة أو الذاكرة الفردية، يسهّل كثيراً عملية الحفظ.
ملاحظة:
إن حفظ القرآن الكريم خلال مدة زمنية محدودة أي أقل من سنتين ونصف، أو سنة ونصف، يصعب عملية الحفظ، وفي كثير من الموارد يؤدي إلى الانصراف عن دورة الحفظ، أو يقلل من نسبة نجاحه ونوع ثبوته واستقراره، أو يعرض صاحبه لنسيان ما حصل عليه. لذلك ينبغي على الذين يحفظوا القرآن الكريم خلال سنة واحدة تكرار ما حفظوه لثلاث سنوات متتالية، حتى يتمكنوا من تحصيل محفوظاتهم بشكل جيد.
يبدو أن أفضل مدة زمنية لحفظ القرآن الكريم هي ما بين 3 و 4 سنوات، وهي الفترة المتعارفة التي تساهم في توفير نوعية الحفظ الجيد.
د- العمل الجماعي:
النقطة الأخرى المتعلقة بالمقدمات، هي العمل الجماعي. وعليه فإذا أراد الحافظ أن يوفق أكثر في عمله، فعليه بالتأكيد الاستفادة من العمل الجماعي.
مقترحات حول العمل الجماعي:
الأول: إقامة جلسات الحفظ؛ فالذين يريدون حفظ القرآن الكريم جيداً، عليهم إقامة جلسات أنس بالآيات الشريفة مع أمثالهم في التوجه والمعتقد، وأن يعقدوا جلسات أسبوعية معاً، وأن يسألوا بعضهم بعضاً حول الآيات القرآنية التي حفظوها.
وإن صرف قراءة الآيات المحفوظة أمام الآخرين يؤدي للإحاطة بها أكثر ورفع ما فيها (القراءة) من الضعف.
فمن الحري -عزيزي الحافظ- أن تقيم جلسة حفظ أو أن تشارك في جلسات التي تقام في القرى والأحياء، وبهذه الطريقة سوف يقوى فيك الدافع للحفظ والجد في ذلك أكثر فأكثر.
الثاني: نموذج آخر من العمل الجماعي الذي نوصي به أيضاً، مذاكرة (مباحثة) المحفوظات، وهي مهمة جداً للنجاح في عملية الحفظ. وبعبارة أخرى هو التكرار المتبادل، ومعنى ذلك أن يختار الحافظ صديقاً له، ويتفقان على برنامج يومي محدد، ويداومان سوياً ويعرض كل منهما محفوظاته على الآخر، ويشد أحدهما أزر الآخر في مسيرة حفظ القرآن الكريم، المليئة بالمد والجزر.
وسنشير لاحقاً إلى كيفية العرض والتكرار المتبادل للمحفوظات.
ثالث: الأمر الآخر في خصوص العمل الجماعي، هي مسألة الحضور والمشاركة الفعالة في المسابقات القرآنية، التي تقام في آلاف الأماكن في الفصول والسنين المختلفة وفي مختلف مناطق العالم.
إن الحضور في المسابقات العامة للقرآن الكريم ليس عملاً تبليغياً محضاً، كما يظن الكثيرون بل على العكس، فالمشاركة في المسابقات والمحافل القرآنية مؤثر جداً في تمكين الحافظ من محفوظاته. لذلك فالذين يواظبون على حضور مثل هذه البرامج القرآنية، يقوّون ثقتهم بأنفسهم من جهة، وتصبح محفوظاتهم سهلة المنال واتصالهم دائم بها أكثر من غيرهم.