البأساء والضراء
عدّدت الآية السابعة والسبعون بعد المئة من سورة البقرة مجموعة من الأمور الاعتقادية والسلوكية التي تمثّل حقيقةَ البِرَّ، ومن جملتها قوله تعالى: (..وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ..).
البأساء هي الفقر، والضرّاء هي كلّ ما يضرّ الإنسان، من مرض، أو فقد عزيز، وما إلى ذلك.
وليس القصد من الصبر على الفقر والمرض الدعوة للرضا بهما، فإنّ الإسلام قد أوجب السعي جهد المستطاع للتخلص من الفقر والمرض والجهل، ومن كل ما يعوق الحياة عن التقدم، وإنّما القصد أن لا ينهار الإنسان أمام الشدائد، وأن يتماسك ويتمالك ويعمل برويّة وثبات للتخلّص ممّا ألمّ به من النوازل..
كما وردت مفردتا البأساء والضراء في الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة أيضا، في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ والضَّرَّاءُ)، فهي تخاطب المؤمنين بصراحة ووضوح: إنّ سنّة اللَّه قد جرت في أنصار الحق أن يدفعوا ثمنه من أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وأن يتحمّلوا في سبيله الأذى والمكاره ويصبروا على المصائب والشدائد . . وقد لاقى من كان قبلكم من أجل الحق ألوانا من الأذى فصبروا . . فهل تصبرون أنتم كما صبروا: أم انكم تريدون أن تدخلوا الجنة بلا ثمن، وقد أبى صاحبها ومالكها إلا أن يكون ثمنها الإيمان والإخلاص والصبر على الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس..
أَلَتْناهُم
ورد هذا التعبير في الآية الحادية والعشرين من سورة (الطور)، في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
ويُشعر سياق الكلام في الآية، أنّ معنى (وما ألتناهم من عملهم) هو: وما نَقصنا من عملهم. وهو المعنى المراد فعلاً، فقد جاء في المصادر اللغوية أنّ فعل (أَلَتَ) على وزن ثَبَتَ تعني أنقص، والألْتُ هو النقصان.
أمّا مناسبة قوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء) في الآية المباركة، فكانت عندما عدّد سبحانه نعمه على المتّقين في الجنة، فبعد الحديث عن طعامهم وشرابهم وأزواجهم، تفضّل الله عليهم بنعمة إلحاق أولادهم المؤمنين بهم، وجعْلهم معهم في درجتهم في الجنة، وذلك حتى لو لم يكن الأولاد قد عمِلوا بعمل آبائهم، وجعَل الله تعالى هذا الفضل منه تكريماً للآباء ودون أن ينقص من عملهم شيئا لقاء ما أعطى اولادَهم، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
الجاهلية الأولى
ورد هذ التعبير في سورة الأحزاب في قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ * فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى..).
يظهر أنّ المراد من الجاهلية الأولى تلك التي كانت قبل البعثة النبوية الشريفة حيث كان من جملة ما هو سائد في تلك البيئة كشفُ النساء عن مفاتنهن للأجانب والتزين بما يلفت أنظار الطامعين إليهن، فجاء النهي عن تلك العادات. ولا شكّ أنّ هذا الحكم عام، والخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وآله باب التأكيد الأشد، تماما كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.
إنّ تعبير (الجاهلية الأولى) يبيّن أنّ جاهلية أخرى ستأتي كالجاهلية الأولى التي ذكرها القرآن، وكلّ ناظر يرى آثار هذا التنبؤ القرآني في عالم التمدن المادي اليوم.
الشجرة الملعونة
وردت هذه العبارة في الآية الستّين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا).
قال العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان): (الذي يهدي إليه الإمعان في البحث أنّ المراد بالشجرة الملعونة قومٌ من المنافقين المتظاهرين بالاسلام يتعرّقون بين المسلمين إما بالنسل وإما بالعقيدة والمسلك هم فتنة للناس).
وذكرت تفاسير عدّة أخرى أنّ المقصود بالشجرة الملعونة هم بنو أمية، وأنّهم أصحاب الفتنة التي اغتمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوقوعها من بعده، وذلك حينما رأى في منامه أنّ هؤلاء الذين طالما حاربوه بالسيف واللسان قد استولوا على كرسي الحكم الاسلامي وقعدوا على منبره.