يا مَن يُجيب دُعاءَ المُضطرَ في الظُلَمِ
يا كاشِفَ الضَرّ و البلوَى مَع السَقَمِ
قَد نامَ وفدُكَ حَولَ البَيتِ و انتَبَهُوا
و أنتَ يا حيُ يا قَيُوم لَم تَنَمِ
أدعوكَ رَبي حَزيناً هائِماً قَلِقاٌ
فارحَم بُكائيَ بِحق البَيتِ و الحَرَمِ
إن كانَ جُودكَ لا يَرجُوهُ ذو سَفَهٍ
فمَن يَجُود على العَاصِينَ بِالكَرَمِ
ثم بكى بكاءا شديدا و انشد يقول:
ألا أيُها المَقصُود في كُلِ حاجة
شكوت إليكَ الضُر، فارحَم شِكايتِي
ألا يارجائي أنتَ تكشف كُربَتي
فَهَب لي ذُنوبيَ كُلها و إقضِ حاجَتي
أتَيتُ باعمالٍ قِباح كَثيرة و ما
في الورى عبدٌ جنى كجِنايَتي
أتحرِقُني بِالنَارِ يا غايةَ المُنَى
فأين رَجَائي؟ ثُم أينَ مَخافَتي
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشام واليَمَنِ
لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشام واليَمَنِ
إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ
إِنَّ الغَريِبَ لَهُ حَقٌّ لِغُرْبَتِهِ
على الْمُقيمينَ في الأَوطانِ والسَّكَنِ
لا تنهًرنّ غريبًاً حال غربته
الدهر ينهرهُ بالذل والمحنِ
سَفري بَعيدٌ وَزادي لَنْ يُبَلِّغَني
وَقُوَّتي ضَعُفَتْ والموتُ يَطلُبُني
وَلي بَقايا ذُنوبٍ لَسْتُ أَعْلَمُها
الله يَعْلَمُها في السِّرِ والعَلَنِ
مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني
وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي
تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ
ولا بُكاءٍ وَلاخَوْفٍ ولا حَزَنِ
أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً
عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني
يَا زَلَّةً كُتِبَتْ في غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ
يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تُحْرِقُني
دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها
وَأَقْطَعُ الدَّهْرَ بِالتَّذْكِيرِ وَالحَزَنِ
دع عنك عزلي يا من كان يعزلني
لو كنت تعلم ما بى كنت تعذرني
دعني أسح دموع لا انقطاع لها
فهل عسى عبرة منها تخلّصني
كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحَاً
عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني
وَقد أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني
وَلَمْ أَرَ الطِّبَّ هذا اليومَ يَنْفَعُني
واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها
مِن كُلِّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ
واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها
وصَارَ رِيقي مَريراً حِينَ غَرْغَرَني
وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا
بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا الكَفَنِ
وَقامَ مَنْ كانَ حِبَّ لنّاسِ في عَجَلٍ
نَحْوَ المُغَسِّلِ يَأْتيني يُغَسِّلُني
وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقاً
حُراً أَرِيباً لَبِيباً عَارِفاً فَطِنِ
فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني
مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني
وَأَوْدَعوني عَلى الأَلْواحِ مُنْطَرِحاً
وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَغسلني
وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني
غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ
وَأَلْبَسُوني ثِياباً لا كِمامَ لها
وَصارَ زَادي حَنُوطِي حينَ حَنَّطَني
وأَخْرَجوني مِنَ الدُّنيا فَوا أَسَفاً
عَلى رَحِيلٍ بِلا زادٍ يُبَلِّغُني
وَحَمَّلوني على الأْكتافِ أَربَعَةٌ
مِنَ الرِّجالِ وَخَلْفِي مَنْ يُشَيِّعُني
وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا
خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثمّ وَدَّعَني
صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها
ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني
وَأَنْزَلوني إلى قَبري على مَهَلٍ
وَقَدَّمُوا واحِداً مِنهم يُلَحِّدُني
وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني
وَأَسْكَبَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني
فَقامَ مُحتَرِماً بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً
وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني
وقَالَ هُلُّوا عليه التُّرْبَ واغْتَنِموا
حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ
في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا
أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني
فَرِيدٌ وَحِيدُ القبرِ، يا أَسَفاً
عَلى الفِراقِ بِلا عَمَلٍ يُزَوِّدُني
وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ
مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كان أَدهَشَني
مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لهم
قَدْ هَالَني أَمْرُهُمْ جِداً فَأَفْزَعَني
وَأَقْعَدوني وَجَدُّوا في سُؤالِهِمُ
مَالِي سِوَاكَ إِلهي مَنْ يُخَلِّصُنِي
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يا أَمَلي
فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ
تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا
وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني
واستَبْدَلَتْ زَوجَتي بَعْلاً لها بَدَلي
وَحَكَّمَتْهُ فِي الأَمْوَالِ والسَّكَنِ
وَصَيَّرَتْ وَلَدي عَبْداً لِيَخْدُمَها
وَصَارَ مَالي لهم حِلاً بِلا ثَمَنِ
فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها
وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحَنْطِ والكَفَنِ
خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها
لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
يَا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَراً
يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي
فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَناً
عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
ثمَّ الصلاةُ على الْمُختارِ سَيِّدِنا
مَا وَصَّى البَرْقَ في شَّامٍ وفي يَمَنِ
والحمدُ لله مُمْسِينَا وَمُصْبِحِنَا
بِالخَيْرِ والعَفْوْ والإِحْسانِ وَالمِنَنِ
حتام يا نفس
يا نفس حتام إلى الحياة سكونك و إلى الدنيا و عمارتها ركونك أ ما اعتبرت بمن مضى من أسلافك و من وارته الأرض من ألافك و من فجعت به من إخوانك و نقلت إلى دار البلى من أقرانك
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها
محاسنهم فيها بوال دواثر
خلت دورهم منهم و أقوت عراصهم
و ساقتهم نحو المنايا المقادر
و خلوا عن الدنيا و ما جمعوا لها
و ضمتهم تحت التراب الحفائر
كم اخترمت أيدي المنون من قرون بعد قرون و كم غيرت الأرض ببلاها و غيبت في ثراها ممن عاشرت في صنوف الناس و شيعتهم إلى الأرماس
و أنت على الدنيا مكب منافس
لخطابها فيها حريص مكاثر
على خطر تمسي و تصبح لاهيا
أ تدري بما ذا لو عقلت تخاطر
و إن امرأ يسعى لدنياه جاهدا
و يذهل عن أخراه لا شك خاسر
فحتام على الدنيا إقبالك و بشهوتها اشتغالك و قد وخطك القتير و وافاك النذير و أنت عما يراد بك ساه و بلذة يومك لاه
و في ذكر هول الموت و القبر و البلى
عن اللهو و اللذات للمرء زاجر
أ بعد اقتراب الأربعين تربص
و شيب القذال منذ ذلك ذاعر
كأنك معني بما هو ضائر
لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر
انظري إلى الأمم الماضية و القرون الفانية و الملوك العاتية كيف انتسفتهم الأيام فأفناهم الحمام فامتحت من الدنيا آثارهم و بقيت فيها أخبارهم
و أضحوا رميما في التراب و أقفرت
مجالس منهم عطلت و مقاصر
و حلوا بدار لا تزاور بينهم
و أنى لسكان القبور التزاور
فما إن ترى إلا جثى قد ثووا بها
مسنمة تسفي عليها الأعاصر
كم عاينت من ذي عز و سلطان و جنود و أعوان تمكن من دنياه و نال منها مناه فبنى الحصون و الدساكر و جمع الأعلاق و الذخائر
فما صرفت كف المنية إذ أتت
مبادرة تهوي إليه الذخائر
و لا دفعت عنه الحصون التي بنى
و حف بها أنهارها و الدساكر
و لا قارعت عنه المنية خبله
و لا طمعت في الذب عنه العساكر
أتاه من أمر الله ما لا يرد و نزل به من قضائه ما لا يصد فتعالى الملك الجبار المتكبر القهار قاسم الجبارين و مبير المتكبرين
مليك عزيز ما يرد قضاؤه
عليم حكيم نافذ الأمر قاهر
عنى كل ذي عز لعزة وجهه
فكل عزيز للمهيمن صاغر
لقد خشعت و استسلمت و تضاءلت
لعزة ذي العرش الملوك الجبابر
فالبدار البدار و الحذار الحذار من الدنيا و مكايدها و ما نصبت لك من مصايدها و تحلى لك من زينتها و استشرف لك من فتنتها
و في دون ما عاينت من فجعاتها
إلى رفضها داع و بالزهد آمر
فجد و لا تغفل فعيشك زائل
و أنت إلى دار المنية ضائر
و لا تطلب الدنيا فإن طلابها
و إن نلت منها غبه [غبها] لك ضائر
فهل يحرص عليها لبيب أو يسر بلذتها أريب و هو على ثقة من فنائها و غير طامع في بقائها أم كيف تنام عين من يخشى البيات أو تسكن نفس من يتوقع الممات
ألا لا و لكنا نغر نفوسنا
و تشغلنا اللذات عما نحاذر
و كيف يلذ العيش من هو موقن
بموقف عدل حين تبلى السرائر
كأنا نرى ألا نشور و أننا سدى
ما لنا بعد الفناء مصاير
و ما عسى أن ينال طالب الدنيا من لذتها و يتمتع به من بهجتها مع فنون مصائبها و أصناف عجائبها و كثرة تعبه في طلابها و تكادحه في اكتسابها و تكابده من أسقامها و أوصابها
و ما أن بنى في كل يوم و ليلة
يروح علينا صرفها و يباكر
تعاوره آفاتها و همومها
و كم ما عسى يبقى لها المتعاور
فلا هو مغبوط بدنياه آمن
و لا هو عن تطلابها النفس قاصر
كم غرت من مخلد إليها و صرعت من مكب عليها فلم تنعشه من صرعته و لم تقله من عثرته و لم تداوه من سقمه و لم تشفه من ألمه
بلى أوردته بعد عز و منعة
موارد سوء ما لهن مصادر
فلما رأى ألا نجاة و أنه
هو الموت لا تنجيه منه الموازر
تندم لو يغنيه طول ندامة
عليه و أبكته الذنوب الكبائر
بكى على ما أسلف من خطاياه و تحسر على ما خلف من دنياه حيث لا ينفعه الاستعبار و لا ينجيه الاعتذار من هول المنية و نزول البلية
أحاطت به آفاته و همومه
و أبلس لما أعجزته المعاذر
فليس له من كربة الموت فارج
و ليس له مما يحاذر ناصر
و قد جشأت خوف المنية نفسه
ترددها دون اللهاة الحناجر
هنالك خف عنه عواده و أسلمه أهله و أولاده و ارتفعت الرنة و العويل و يئسوا من برء العليل غضوا بأيديهم عينيه و مدوا عند خروج نفسه رجليه
فكم موجع يبكي عليه تفجعا
و مستنجد صبرا و ما هو صابر
و مسترجع داع له الله مخلص
يعدد منه خير ما هو ذاكر
و كم شامت مستبشر بوفاته
و عما قليل كالذي صار صائر
شق جيوبها نساؤه و لطم خدودها إماؤه و أعول لفقده جيرانه و توجع لرزيته إخوانه ثم أقبلوا على جهازه و تشمروا لإبرازه
فظل أحب القوم كان لقربه
يحث على تجهيزه و يبادر
و شمر من قد أحضروه لغسله
و وجه لما فاظ للقبر حافر
و كفن في ثوبين فاجتمعت
له مشيعة إخوانه و العشائر
فلو رأيت الأصغر من أولاده و قد غلب الحزن على فؤاده فغشي من الجزع عليه و قد خضبت الدموع خديه ثم أفاق و هو يندب أباه و يقول بشجو وا ويلاه
لأبصرت من قبح المنية منظرا
يهال لمرآه و يرتاع ناظر
أكابر أولاد يهيج اكتيابهم
إذا ما تناساه البنون الأصاغر
و رنة نسوان عليه جوازع
مدامعها فوق الخدود غزائر
ثم أخرج من سعة قصره إلى ضيق قبره فحثوا بأيديهم التراب و أكثروا التلدد و الانتحاب و وقفوا ساعة عليه و قد يئسوا من النظر إليه
فولوا عليه معولين و كلهم
لمثل الذي لاقى أخوه محاذر
كشاء رتاع آمنات بدا لها
بمدية باد للذراعين حاسر
فراعت و لم ترتع قليلا و أجفلت
فلما انتحى منها الذي هو حاذر
عادت إلى مرعاها و نسيت ما في أختها دهاها أ فبأفعال البهائم اقتدينا و على عادتها جرينا عد إلى ذكر المنقول إلى الثرى و المدفوع إلى هول ما ترى
هوى مصرعا في لحده
و توزعت مواريثه أرحامه و الأواصر
و أنحوا على أمواله يخضمونها
فما حامد منهم عليها و شاكر
فيا عامر الدنيا و يا ساعيا لها
و يا آمنا من أن تدور الدوائر
كيف أمنت هذه الحالة و أنت صائر إليها لا محالة أم كيف تتهنأ بحياتك و هي مطيتك إلى مماتك أم كيف تسيغ طعامك و أنت تنتظر حمامك
و لم تتزود للرحيل و قد دنا
و أنت على حال وشيكا مسافر
فيا ويح نفسي كم أسوف توبتي
و عمري فان و الردى لي ناظر
و كل الذي أسلفت في الصحف مثبت
يجازي عليه عادل الحكم قاهر
فكم ترقع بدينك دنياك و تركب في ذلك هواك إني لأراك ضعيف اليقين يا راقع الدنيا بالدين أ بهذا أمرك الرحمن أم على هذا دلك القرآن
تخرب ما يبقى و تعمر فانيا
و لا ذاك موفور و لا ذاك عامر
و هل لك إن وافاك حتفك بغتة
و لم تكتسب خيرا لدى الله عاذر
أ ترضى بأن تفنى الحياة و تنقضي
و دينك منقوص و مالك وافر
فبك إلهنا نستجير يا عليم يا خبير من نؤمل لفكاك رقابنا غيرك و من نرجو لغفران ذنوبنا سواك و أنت المتفضل المنان القائم الديان العائد علينا بالإحسان بعد الإساءة منا و العصيان يا ذا العزة و السلطان و القوة و البرهان أجرنا من عذابك الأليم و اجعلنا من سكان دار النعيم يا أرحم الراحمين