تمهيد:
ذكرنا سابقاً أنّ الفترة الّتي تولّى فيها الإمام الكاظم عليه السلام الإمامة كانت فترة عصيبة على الشيعة، سواء على مستوى تشكيل الوعي العقائديّ والارتباط بشخص الإمام الكاظم عليه السلام، نظراً لمضمون الوصيّة الّتي تركها الإمام الصادق عليه السلام وتعمّد فيها التمويه حذراً من العبّاسيّين فجعل أوصياءه خمسة أحدهم المنصور، أم لجهة الظلم والجور الّذي لحق بالناس عموماً والعلويّين خصوصاً. وهذا ما أدّى إلى نشوب العديد من الأحداث وعلى رأسها واقعة فخّ.
واقعة فخّ:
نهض الحسين بن عليٍّ بن الحسن بن الحسن بن عليٍّ بن أبي طالب عليه م السلام وأعلن الثورة على الحاكم العبّاسيّ بسبب الاضطهاد والإذلال الّذي مارسه الخلفاء العبّاسيّون ضدّ العلويّين، واستبداد الخليفة الهادي على وجه الخصوص.
فقد عيّن الهادي ولاة قساة على المدينة مثل إسحاق بن عيسى بن عليّ الّذي استخلف عليها رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب يُعرف بعبد العزيز، وكان ظالماً للرعيّة.
وقد بالغ هذا الأثيم في إذلال العلويّين وظلمهم فألزمهم بالمثول عنده كلّ يوم، وفرض عليه م الرقابة الشخصيّّة، فجعل كلّ واحد منهم يكفل صاحبه بالحضور، وقبضت شرطته على كلّ من: الحسن بن محمّد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب وعمر بن سلام، وزعمت أنّها وجدتهم على شراب، فأمر بضربهم وجعل في أعناقهم حبالاً، وأمر أن يُطاف بهم في الشوارع ليفضحهم1.
وفي سنة 169هـ عزم الحسين بن عليّ على الخروج وأخبر الإمام الكاظم عليه السلام بالأمر وطلب منه المبايعة، فقال له الإمام عليه السلام: "يا ابن عمّ لا تكلّفني ما كلّف ابن عمّك أبا عبد الله الصادق عليه السلام فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يُريد، فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه، وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثمّ ودّعه"2.
جمع الحسين أصحابه، فاجتمعوا ستّة وعشرين رجلاً من ولد عليّ عليه السلام وعشرة من الحاجّ وجماعة من الموالي. فلّما أذّن المؤذِّن الصبح دخلوا المسجد ونادوا "أحدٌ أحدٌ"، وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة، وأجبر المؤذِّن على قول حيّ على خير العمل، وصلّى الحسين بالناس الصبح، وخطب بعد الصلاة وبايعه الناس. وبعد أن استولى على المدينة توجّه نحو مكّة، وبعد أن وصل إلى (فخّ) 3عسكر فيه وكان معه 300 مقاتل، ثمّ لحقته الجيوش العبّاسيّة. وبعد قتال رهيب استشهد الحسين وأصحابه وأُرسلت رؤوس الأبرار إلى الطاغية، ومعهم الأسرى وقد قُيّدوا بالحبال والسلاسل ووُضع في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأمر الطاغية بقتلهم فقُتلوا صبراً وصُلبوا على باب الحبس4.
نتائج الثورة وموقف الإمام الكاظم عليه السلام منها:
انتهت الثورة باستشهاد الحسين وصحبه. وأخذ الخليفة الهادي يتوعّد من بقي حيّاً منهم، وذَكَر الإمام الكاظم عليه السلام قائلاً: والله ما خرج حسين إلّا عن أمره (أي الإمام الكاظم عليه السلام) ولا اتّبع إلّا محبّته، لأنّه صاحب الوصيّة في أهل هذا البيت. قتلني الله إن أبقيت عليه 5.
وكتب عليّ بن يقطين إلى الإمام عليه السلام بصورة الأمر، فلمّا أصبح عليه السلام أحضر أهل بيته وشيعته فأطلعهم على ما ورد عليه من الخبر، وقال: "ما تشيرون في هذا؟" فقالوا: نُشير عليك ونحن معك أن تُباعد شخصك عن هذا الجبّار وتغيّب شخصك دونه.
فتبسّم عليه السلام وأقبل نحو القبلة ودعا بدعاء الجوشن الصغير المعروف الوارد عنه عليه السلام ثمّ قال: قد مات في يومه هذا والله ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾6.
قال الراوي: ثمّ قمنا إلى الصلاة وتفرّق القوم فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الوارد بموت الهادي والبيعة للرشيد7.
أمّا الموقف الحقيقيّ للإمام في هذه الثورة فقد ذكرنا سابقاً أنّه عليه السلام لم يكن يريد المواجهة المباشرة لنظام الحكم القائم. وقد صرّح للحسين بن عليّ عندما طلب منه المبايعة بموقفه من الثورة، وذكّره بموقف الإمام الصادق عليه السلام من ثورة محمّد ذي النفس الزكيّة، وسوف يكون موقفه كموقف أبيه عليه السلام. وقد صدر عن الإمام عليه السلام تأييدٌ ومساندة صريحة لحركة الحسين وثورته عندما
عزم عليه ا في قوله عليه السلام: "إنّك مقتول فأحدّ الضراب، فإنّ القوم فسّاق يُظهرون إيماناً ويُضمرون نفاقاً وشركاً..."8. ولمّا سمع الإمام عليه السلام بمقتل الحسين بكاه وأبّنه ورثاه بكلمات منها: ".. مضى والله مسلماً صالحاً صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر"9.
الإمام الكاظم عليه السلام وهارون الرشيد:
عاصر الإمام الكاظم عليه السلام هارون الرشيد لمدّة (14) سنة وأشهراً. وكانت هذه السنوات من أشدّ المراحل في حياته. وقد حفلت بالآلام، حيث صبّ فيها هارون كلّ الحقد الجاهليّ ضدّ أهل البيت عليه م السلام. واتّبع بدهائه سياسة تميّز بها عمّن سبقه، والّتي كان من شأنها شلّ حركة الإمام عليه السلام، وعزله عن الأمّة تمهيداً لقتله فيما بعد.
من هنا كان الإمام عليه السلام قد انتهج أساليب أخرى من العمل للمرحلة الجديدة.
أمّا الملامح العامّة لحكم هارون الرشيد وعهده فيمكن اختصارها بما يلي:
1- تقمّص الرشيد الخلافة وهو في عنفوان الشباب لم يذق محن الأيّام ولم تصقله التجارب. وجاء إليه الحكم والملك بعد نجاح مؤامرة اغتيال الهادي والّتي اشتركت في تدبيرها خيزران (أمّه) ورئيس وزرائه يحيى البرمكيّ10.
2- استوسقت له الأمور ونال من دنياه كلّ ما اشتهى، فامتدّ نفوذه في ساحة كبيرة من المعمورة حتّى أثر عنه خطابه للسحاب: "اذهبي إلى حيث شئت يأتني خراجك"11.
3- جُبي له الخراج من جميع الأقاليم الإسلاميّة، وأصبح بيت المال أضخم مستودع للمال في العالم، وأصبحت بغداد مستودع الثراء الفاحش.
4- أوكل تدبير أمور الرعيّة إلى يحيى البرمكيّ، وأسند إليه جميع السلطات وانصرف هو إلى ملذّاته، حتّى أنفق قسماً كبيراً من الخزينة العامّة على الماجنين والمطربين والجواري.
5- كان مولعاً بالغناء منذ حداثة سنّه؛ فقد نشأ بين أحضان المغنّيات واجتمع في قصره عدد كبير منهنّ حتّى جعل المغنّين طبقات، وأدمن على شرب الخمرة وألعاب القمار12.
6- في عهده عمّت الدعارة وانتشر المجون وتدهورت الأخلاق وأُقبرت الفضائل.
7- ساس العلويّين بسياسة جدّه المنصور وهي سياسة العنف والجور، حتّى أقسم على استئصالهم قائلاً: "والله لأقتلنّهم ولأقتلنّ شيعتهم"13. وأقدم على هدم الدور المجاورة لقبر الحسين عليه السلام وأمر بحرث أرض كربلاء ليمحو كلّ أثر للقبر الشريف14.
8- أصبح الاتّهام بالزندقة وسيلةً للقضاء على خصوم العبّاسيّين. وتعدّى الاتّهام لكلّ من يناقش أحاديث الصحابة أو يردّها، وبذلك استحلّوا إراقة دماء الشيعة. وكان المتّهم بالإلحاد تُقبل توبته بينما المتّهم بالولاء لأهل البيت عليه م السلامكان يُحكم عليه بالمروق من الدِّين. وبهذا حُكم بالإعدام على الشيعة وزجّوا في غياهب السجون.
9- ظهرت مشكلة الخلاف في خلق القرآن عند ظهور أمر المعتزلة وانتشار أفكارهم، حيث أعلنوا القول بخلق القرآن بعد أن كان الجعد بن درهم قد ابتدع فكرة خلق القرآن في أواخر الدولة الأمويّة. وقد قتل الرشيد من كان يقول بذلك. وأخذت تتّسع هذه الظاهرة حتّى ساندها المأمون في عهده وحمل الناس بالقهر عليها.
10- جرت أعظم نكبة في التاريخ للبرامكة بعد أن كانت الدنيا بأيديهم يتمتّعون بلذائذها ونعيمها، فغزاهم الدهر بنكباته فصاروا من الذلّ والهوان بأقصى مكان فصودرت أموالهم، وقتل جعفر وقذف أبو يحيى البرمكيّ وباقي أسرته في ظلمات السجون، حتّى بلغ سوء حالهم أنّ من كان يذكر أيّامهم كان ينال العقوبة والعذاب.
سياسة الرشيد وأساليبه مع الإمام الكاظم عليه السلام
تسلّم هارون الرشيد زمام السلطة من العام 170هـ، وحتّى العام 193هـ. وتشير الروايات الواردة بشأن حياة الإمام الكاظم عليه السلام إلى المصاعب الّتي تعرّض لها على يد هارون الرشيد. وهذه المرحلة من حياة الإمام عليه السلام يمكن تقسيمها إلى قسمين:
1- مرحلة العلاقة بين الإمام عليه السلام وهارون الرشيد، وأساليبه مع الإمام عليه السلام.
2- مرحلة القبض على الإمام عليه السلام وسجنه ومن ثمّ شهادته عليه السلام.
أمّا المرحلة الأولى فكانت سياسة الرشيد فيها محاولة شلّ حركة الإمام عليه السلام ونشاطه والاتّهام السياسيّ حيناً وأحياناً أخرى الإكرام والتعظيم نفاقاً وكذباً. فمن أساليب الرشيد الّتي كان يهدف منها إلى تخويف الإمام عليه السلام، اتّهامه بأعمال سياسيّة محظورة بنظر الخلافة، مثل جباية الخراج. وعن هذا الاتّهام يقول الإمام الكاظم عليه السلام: "لمّا أُدخلت على الرشيد سلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثمّ قال: يا موسى بن جعفر! خليفتان يُجبى إليهما الخراج؟
فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك أن تبوء بإثمي وإثمك، وتقبل الباطل من أعدائنا علينا، فقد علمت أنّه قد كُذب علينا منذ قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما علم ذلك عندك..."15.
ومنها اتّهام الإمام بانحرافات فكريّة، ومنها السخرية بالإمام عليه السلام حيث دعاه إلى مجلس فيه بعض السحرة الّذين حاولوا الاستهزاء به لكنّهم باؤوا بالفشل. وفي المقابل فإنّ مواقف الإمام عليه السلام من الرشيد لم تكن مواقف استسلاميّة لمخطّطه الّذي كان يهدف منه إلى إخضاع الإمام عليه السلام وتنازله لإرادة الرشيد، بل كانت مواقف يتحدّى بها خطط الرشيد، على الرغم من أنّ بعض المواقف للإمام عليه السلام قد أخذت طابعاً مرناً من الرشيد، وذلك لمعرفة الإمام به وبنواياه حيث راعى عليه السلام في مواقفه مصلحةً أهمّ.
ومن المشاهد الّتي تُعبّر عن حقيقة موقف الإمام عليه السلام من حكومة الرشيد ما ذكره محمّد بن طلحة الأنصاريّ حيث قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن عليه السلام حين أُدخل عليه : ما هذه الدار؟ فقال عليه السلام: "هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ﴾16.
فقال له هارون: فدار من هي؟ قال: "هي لشيعتنا فَترة ولغيرهم فتنة".
فقال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟
فقال عليه السلام: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة".
قال: فأين شيعتك؟ فقرأ الإمام عليه السلام: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَة﴾17.
قال: فقال له: فنحن كفّار ؟ قال: لا، ولكن كما قال الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار﴾ 18"19.
وفي رواية أخرى أنّه لما دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فتقدّم الرشيد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله يا بن العمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم الإمام عليه السلام فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه20.
وأمّا في المجال السياسيّ فقد قام الإمام الكاظم عليه السلام بخطوات تربويّة تحصينيّة لشيعته، مثل تأكيد الانتماء السياسيّ لخطّ أهل البيت عليه م السلام فشدّد على محبّيه وشيعته وحرّم عليه م التعاون مع السلطات العبّاسيّة الظالمة (باستثناء بعض الحالات مثل قضيّة عليّ بن يقطين)، وموقفه عليه السلام مع صفوان الجمّال يكشف لنا دقّة المنهج التربويّ عنده مع شيعته. فقد دخل صفوان بن مهران الأسديّ على الإمام الكاظم عليه السلام فقال له: "يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً. قال: جلعت فداك أيّ شيء هو؟ قال عليه السلام: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون الرشيد - قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للّهو، ولكن لهذا الطريق - يعني طريق مكّة - ولا أتولّاه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني، قال عليه السلام: يا صفوان أيقع كراؤك عليه م؟ قال: نعم جُعلت فداك، قال: أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟ قال: نعم، قال عليه السلام: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان وارداً النار".
فقام صفوان من وقته فباع جماله وأعرض عن مهنته، فبلغ ذلك هارون الرشيد فأرسل خلفه، فلمّا مثل عنده قال له وهو يتميّز من الغيظ: قل يا صفوان: بلغني أنّك بعت جمالك، قال: نعم، قال: ولِمَ؟ قال: أنا شيخ كبير، وإنّ الغلمان لا يقدرون على الأعمال، قال: هيهات إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك موسى بن جعفر، قال: مالي ولموسى بن جعفر؟ قال: دع عنك هذا، فوالله لولا حُسن صحبتك لقتلتك21.
وفي الوقت الّذي أكّد الإمام عليه السلام فيه على الالتزام بمبدأ التقيّة نشط عن طريق أصحابه بالنفوذ في الجهاز الحاكم وتصدّر أصحابه مواقع سياسيّة مهمّة في الحكومة العبّاسيّة، ومن هؤلاء: عليّ بن يقطين الّذي تولّى المناصب المهمّة في الدولة مثل ولاية الأهواز وكان عوناً للمؤمنين، وحفص بن غياث الكوفيّ، ولي القضاء ببغداد، وعبد الله بن سنان بن طريف، وكان خازناً للمنصور والمهديّّ والهادي والرشيد، والفضل بن سليمان الكاتب البغداديّ، كان يكتب للمنصور والمهديّ، والحسن بن راشد مولى بني العبّاس كان وزيراً للمهديّ وموسى الهادي وهارون الرشيد، وكان هؤلاء من أصحاب الإمام موسى الكاظم عليه السلام ورواة حديثه.
الإمام الكاظم عليه السلام في سجون هارون الرشيد:
وهي المرحلة الثانية من حياة الإمام الكاظم عليه السلام في عهد هارون الرشيد.
وبعد زيارة الرشيد لقبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر الطاغية باعتقال الإمام عليه السلام فألقي القبض عليه عليه السلام وهو قائم يصلّي عند رأس جدّه النبيّصلى الله عليه وآله وسلم. وحُمل عليه السلام على جملٍ إلى البصرة حيث حبسه عيسى بن أبي جعفر في بيت من بيوت المحبس. ولمّا شاع خبر اعتقاله عليه السلام وعلم الناس مكانه أوعز الرشيد إلى عيسى يطلب منه فوراً القيام باغتيال الإمام عليه السلام، فثقل الأمر على عيسى وكتب إلى الرشيد رسالة يطلب فيها إعفاءه عن ذلك، فأمر الرشيد بحمله عليه السلام إلى بغداد وأمر الفضل بن الربيع باعتقاله فأخذه الفضل وحبسه في بيته. ولمّا طالت مدّة الحبس دعا الإمام عليه السلام ربّه بتخليصه من السجن، فاستجاب الله تعالى دعاءه وأنقذه من سجن الطاغية وأطلقه في غلس الليل. وكانت مدّة مكث الإمام عليه السلام في سجن الفضل طويلة، وكان هذا هو الاعتقال الأوّل.
ولمّا شاع ذكر الإمام عليه السلام وانتشرت فضائله ومآثره في بغداد، ضاق الرشيد من ذلك، وخاف منه فاعتقله ثانية وأودعه في بيت الفضل بن يحيى، الّذي امتنع أيضاً عن اغتيال الإمام عليه السلام ورفض طلب هارون لمّا رأى الإمام عليه السلام وإقباله على الله تعالى. فعندئذٍ أمر هارون بالفضل فجُرّد، ثمّ ضربه مائة سوط وخرج متغيّر اللون بخلاف ما دخل، فذهبت قوّته وجعل يسلّم على الناس يميناً وشمالاً.
ونُقل الإمام عليه السلام بعد ذلك وبأمر من هارون إلى سجن السنديّ بن شاهك وأمره بالتضييق عليه، وأن يقيّد الإمام عليه السلام بثلاثين رطلاً من الحديد ويقفل الباب في وجهه ولا يدعه يخرج إلّا للوضوء.
فاستجاب هذا الأثيم لذلك، وقابل الإمام عليه السلام بكلّ قسوة وجفاء والإمام صابر محتسب إلى الله سبحانه.
ووكَّل السنديّ بالإمام عليه السلام بشّاراً مولاه، وكان من أشدّ الناس بغضاً لآل أبي طالب، ولكنّه لم يلبث أن تغيّر حاله وتاب إلى طريق الحقّ لِمَا رأى من كرامات الإمام عليه السلام، ومعاجزه.22
وذهب أكثر المؤرّخين إلى أنّ الرشيد أوعز إلى السنديّ بن شاهك الأثيم بقتل الإمام عليه السلام، فعمد السنديّ إلى رُطب فوضع فيه سمّاً قاتلاً وقدّمه للإمام عليه السلام فأكل منه الإمام عليه السلام وسرى السمّ في جسده وأخذ يعاني آلاماً شديدة. وبعد أن وصل السمّ إلى جميع أجزاء بدن الإمام عليه السلام فارق الحياة وأظلمت الدنيا لفقده وأشرقت الآخرة بقدومه، وكانت شهادته عليه السلام سنة (183هـ) وعمره الشريف يوم وفاته خمس وخمسون سنة.
الخلاصة:
- حصلت في مرحلة إمامة الإمام الكاظم عليه السلام ثورات عدّة كان من أهمّها ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وكان من أسبابها الاضطهاد والإذلال الّذي مارسه الخلفاء العبّاسيّون ضد العلويّين واستبداد الخليفة الهادي على وجه الخصوص.
- أسفرت هذه الثورة الّتي عرفت بـ (واقعة فخّ) عن استشهاد الحسين ومن معه، وكان الإمام الكاظم عليه السلام قد حذّر الحسين من أن نهاية الثورة ستكون كذلك.
- عاصر الإمام الكاظم عليه السلام هارون الرشيد وكانت هذه المرحلة الّتي دامت حوالى (14 سنة) من أشدّ المراحل في حياته عليه السلام.
- تميّزت شخصيّة هارون بعدّة أمور منها: اتّساع نفوذه لساحة كبيرة من المعمورة، إيكال تدبير أمور الرعيّة إلى يحيى البرمكيّ وانصرافه إلى ملذّاته وشهواته، ومعاملته العلويّين بالظلم والاضطهاد.
- استعمل الرشيد مع الإمام عليه السلام أساليب متعدّدة هدف منها إلى شلّ حركته عليه السلام ونشاطه، وتخويفه عليه السلام واتّهامه بأعمال سياسيّة محظورة، وفي مقابل ذلك استطاع الإمام عليه السلام مواجهة الرشيد والقضاء على جميع مخطّطاته.
- اعتُقل الإمام عليه السلام في زمن هارون مرّتين، تنقّل خلالهما بين عدّة سجون كان آخرها سجن السنديّ بن شاهك، الّذي دسّ السمّ في طعام الإمام عليه السلام واستُشهد عليه السلام بسبب ذلك.
المصدر
بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- بحار الأنوار، م.س: 48/161.
2- الكافي، م.س: 1/366.
3- فخّ: هو وادٍ بمكّة ـ معجم البلدان، الحموي: 24/237.
4- تاريخ الطبري، م.س: 10/29.
5- بحار الأنوار، م.س: 48/150 ـ 153.
6- سورة الذاريات، الآية: 23.
7- بحار الأنوار، م.س: 48/150.
8- م.ن: 48/161.
9- م.ن: 48/165.
10- تاريخ اليعقوبي، م.س: 2/406.
11- نقش خواتيم النبيّ والأئمة عليه م السلام، السيّد جعفر مرتضى:58.
12- الأغاني، م.س: 5/69 ـ 225.
13- م.ن.
14- الأمالي، الشيخ الطوسي، م.س: 329.
15- وسائل الشيعة، م.س: 14/275.
16- سورة الأعراف، الآية: 146.
17- سورة البيّنة، الآية: 1.
18- سورة إبراهيم، الآية: 28.
19- بحار الأنوار، م.س: 48/156.
20- م.ن: 48/103.
21- رجال النجاشي، الشيخ أحمد بن عليّ النجاشي: 146، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدّسة، ط 5، 1416هـ.
22- بحار الأنوار، م.س: 48/241.