"أللهمّ صلّ على محمّد وأهل بيته، وصلّ على موسى بن جعفر، وصيّ الأبرار، وإمام الأخيار، وعيبة الأنوار، ووارث السكينة والوقار، والحكم والآثار، الذي كان يحيي الليل بالسهر إلى السحر، بمواصلة الاستغفار، حليف السجدة الطويلة، والدموع الغزيرة، والمناجاة الكثيرة، والضراعات المتّصلة الجميلة، ومقرّ النهى والعدل، والخير والفضل، والندى والبذل، ومألف البلوى والصبر، والمضطهد بالظلم، والمقبور بالجور، والمعذّب في قعر السجون وظلم المطامير، ذي الساق المرضوض بحلق القيود، والجنازة المنادى عليها بذلّ الاستخفاف، والوارد على جدّه المصطفى وأبيه المرتضى وأمّه سيّدة النساء، بإرثٍ مغصوب، وولاءٍ مسلوب، وأمرٍ مغلوب، ودمٍ مطلوب، وسمٍّ مشروب".
لقد كان هناك من بين الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ، من دخلوا السجن، فقد دخل نبيّ الله يوسف عليه السلام السجن، بعيداً عن أهله وأبيه وبلده، وقال: "ربّ السجن أحبّ إليَّ ممّا يدعونني إليه"2، ولكنّه لم يكن وحيداً فريداً بل كان معه آخرون، كما ينصّ القرآن الكريم على ذلك. وفي نهاية أمره خرج من السجن، وجمعه الله تعالى بأهله وأبيه وإخوته..
والإمام الكاظم عليه السلام دخل السجن، وبالرغم من أنّ بعض الأئمّة عليهم السلام قد سُجن إلّا أنّ الإمام الكاظم عليه السلام كان أكثرهم مكوثاً فيه، في غربة، بعيداً عن أهله وعياله وأولاده، لم يدخل عليه أحد، لا زائر يزوره، ولا عائد يعوده، وكان في ظلام دامس، في طامورة تحت الأرض، وقد قيّد بحلق من الحديد حتّى أثرت بساقه ورضّت..حتّى قضى مسموماً في السجن ولم يشاهد عياله ولا أولاده..
كان الإمام الكاظم عليه السلام ، يعلم بأنّه لا يعود إلى أرض جدّه، وسوف يُدفن في بغداد، في أرض غربة، وقبل خروجه بأيّام قال لأخيه عليّ بن جعفر: "يا عليّ، لا بدّ من أن تمضي مقادير الله فيَّ، ولي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أسوة، وبأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين، عليهم السلام..
وفي بعض السنوات خرج الرشيد إلى الحجّ وبدأ بالمدينة وصار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّي أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد حبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بين أمّتك وسفك دمائها!!
فأمر بالقبض على الإمام عليه السلام وكان قائماً يصلّي عند رأس النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقطع عليه صلاته، وحُمل وهو يبكي ويقول: إليك أشكو يا رسول الله.. وقُيّد، وجعله في قبّة على بغل، وبعث به إلى البصرة..
قَطَعَ الرَّشِيْدُ عَلَيْهِ فَرْضَ صَلَاتِهِ قَسْراً وَأَظْهَرَ كَامِنَ الْأَحْقَادِ
وعندما وصل إلى البصرة حبسه عيسى بن جعفر المنصور، وسمعه بعضهم وهو في السجن كثيراً ما يقول في دعائه: "أللهمّ إنّك تعلم أنّي كنت أسالك أن تفرّغني لعبادتك، أللهمّ وقد فعلت فلك الحمد".
وأرسل إليه الرشيد يأمره بسفك دمه، ولكنّه لم يفعل لِمَا رأى من صلاحه وعبادته، فصيّره الرشيد إلى بغداد مقيّداً تحفّ به الشرطة والحرّاس، فأُودع سجن الفضل بن الربيع..
امن البصرة السجن بغداد جابه ابحديد وقيد ويدور اذهابه
ذبه ابسجن أظلم غلق بابه او نهى السجان يمه الناس يصلون
وفي بعض المرّات ضاق صدر الإمام عليه السلام ، من السجن، فلمّا جنَّ عليه الليل قام عليه السلام فجدّد طهوره واستقبل بوجهه القبلة وصلَّى لله أربع ركعات، ثمّ دعا بهذه الدعوات:
"يا سيّدي، نجِّني من حبس هارون، وخلّصني من يديه، يا مخلّص الشجر من بين رمل وطين وماء، ويا مخلّص اللبن من بين فرث ودم، ويا مخلّص الولد من بين مشيمة ورحم، ويا مخلّص النّار من بين الحديد والحجر، ويا مخلّص الروح من بين الأحشاء والأمعاء، خلّصني من يدي هارون".
واستجاب الله دعاء الإمام فأخرجه هارون من السجن لكن لم يسمح له بالعودة إلى المدينة، ولم يلبث أن أدخله السجن مرّة أخرى، ولم يخرج بعدها منه، وصار ينقل من سجنٍ إلى سجن..
مَا زَالَ يُنْقَلُ فِيْ السُّجُوْنِ مُعَانِياً عَضَّ الْقُيُوْدَ وَمُثْقَلَ الْأَصْفَادِ
وكانت له عليه السلام في السجن سجدة بعد انقضاض الشمس إلى الزوال، فأشرف عليه هارون من على السطح، فقال للربيع: يا ربيع ما هذا الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟! فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر عليهما السلام ، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال، فقال هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم..
وبقي الإمام عليه السلام على هذه الحالة من العبادة والصلاة والطاعة لله عزَّ وجلَّ ليله ونهاره، وهو يُنقل من سجنٍ إلى سجنٍ، ولمّا أبى الربيع قتله، لما رأى من صلاحه وعبادته أيضاً حوّله الرشيد، لعنه الله، بعد ذلك إلى حبس الفضل بن يحيى البرمكيّ، وأبى الفضل إلّا أن يكرمه أيض، فوسّع عليه وأكرمه..
فأخرجه الرشيد من عنده وصيّره عند السنديَّ بن شاهك، الذي شدّد عليه وضيّق عليه في المأكل والمشرب، ومنع الناس من الدخول عليه، وأقفل الباب في وجهه، فلم يأذن له في الخروج إلّا لتجديد طهوره، وقيّده بثلاثة قيود من الحديد وزنها ثلاثون رطل، فكتب الإمام عليه السلام للرشيد من الحبس: "إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء إلّا انقضى عنك يوم من الرخاء، حتّى نقضي جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء، يخسر فيه المبطلون".
وكتب إلى أحد أصحابه وهو عليّ بن سويد كتاباً جاء فيه: "إنّ أوّل ما أُنهي إليك نفسي في لياليَّ هذه، غير جازع ولا نادم، ولا شاكٍّ فيما هو كائن ممّا قضى الله وقدّر وحتم".
وأمر اللعين هارون السنديَّ بن شاهك أن يدسّ السمّ في طعامٍ له، وفي بعض الروايات جعله له في رُطب، ولمّا أكله الإمام عليه السلام ، قال له السنديّ: تزداد؟ فقال له: حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه فيما أُمرت به. فأحسّ الإمام بالسمّ يسري في بدنه، فمرض وتوعّك ثلاثة أيّام..
فأحضر له السنديّ القضاة والعدول قبل وفاته ليشهدوا عند الناس بأنّه ليس به علّة ولا مرض ولا ضرر، فالتفت عليه السلام إليهم فقال لهم: "اشهدوا أنّي مقتول بالسمّ منذ ثلاثة أيّام، استشهدوا أنّي صحيح الظاهر ولكنّي مسموم وسأحمرّ في آخر هذا اليوم حمرة".. وفي رواية أخرى أنّه قال: "يا فلان ويا فلان، إنّي سقيت السمّ في يومي هذ، وفي غدٍ يصفرّ بدني، وبعد غدٍ يسودّ وأموت".
وأحضر له الطبيب فنظر في يده فرأى خضرة في بطن راحته، وكان السمّ قد اجتمع في ذلك الموضع، فانصرف الطبيب إليهم فقال: والله هو أعلم بما فعلتم به..
وبقي الإمام يعاني ألم السمّ وقد سرى في بدنه، يحمرّ تارة ويصفرّ أخرى ويسودّ ثالثة، حتّى حضر أجله واستقبل القبلة، وعرق جبينه، وسكن أنينه، وفاضت روحه الطاهرة غريباً مظلوماً مسموماً..
رحم الله من نادى: وا كاظماه وا إماماه وا غريباه وا مسموماه..
وفي رواية أنّهم لفّوه في بساط وأُمر الفرّاشون أن يقعدوا عليه حتّى قضى..
ايلوج وحده بالحبس ويلي عليه امن الخلق ما حد گرب وادنى اليه
غمض اعيونه اومد رجله وايديه ومن الألم جسمه نحل والقلب ذاب
وقام الإمام الرضا عليه السلام بتغسيله وتحنيطه وتكفينه والصلاة عليه من حيث يخفى على الناس ذلك، وأمر السنديّ بن شاهك أن يخرجوه على نعش ويضعوه على جسر الرصافة ببغداد، وينادوا عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه..
وأقام أربعة أشخاص أن ينادوا عليه- بعكس هذا النداء-: ألا من أراد أن ينظر إلى (الطيّب بن الطيّب) موسى بن جعفر فليخرج.. وفي رواية أنّه تُرك على الطريق ثلاثة أيّام يأتي من يأتي فينظر إليه..
ويح قلبي للذي أمسى وحيد بالحبس لمن قضى ابسم الرشيد
بالعبا ملفوف مسلوب الثياب على الجسر جابوه وبرجله الحديد
بالحبس قضّى العمر لـمّن قضى طاح ركن الدين واسودّ الفضا
يوم نادوا ذا إمام الرافضه والعجب كل العجب منع العذاب
إلى أن خرج سليمان بن أبي جعفر عمّ الرشيد، وأخذ الجنازة منهم ووضعها على مفرق أربع طرق وأقام من ينادي عليها: من أراد أن ينظر إلى الطيّب بن الطيّب موسى بن جعفر فليخرج، فجاء الناس وشيّعوه حتّى دفنوه في مقابر قريش ببغداد.. ودفنوه بقيوده كما أوصى بذلك..
وَقَبْرٍ بِبَغْدَادَ لِنَفْسٍ زَكِيَّةٍ تَضَمَّنَهَا الرَّحْمَنُ فِيْ الْغُرُفَاتِ
المصدر
مجالس الأئمة المعصومين2،سلسلة مجالس الأئمة المعصومين، اعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني
1- من قصيدة للشيخ أحمد العسيليّ العامليّ.
2- سورة يوسف الآية 33.