الحلقة الأولى | أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ
نص الحلقة الأولى:
قال تعالى في الآية الرابعة من سورة الأحقاف: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ذكر علماء اللغة والمفسّرون معانيَ عدة لكلمة (أثارة) تعود إلى معنى واحد، وهو الأثر الذي يبقى من الشيء ويدل على وجوده. فيكون التعبير بـ (أثارةٍ من علم) إشارةً إلى سنن الأنبياء الماضين وأوصيائهم، أو آثار العلماء السابقين.
فالآية تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقول له: قل لهؤلاء المشركين: إذا كنتم تقرّون بأنّ الأصنام لا دخل لها في خلق الموجودات، وتقولون بصراحة بأنّ الله هو خالقها جميعا، فعلام تمدّون أكفّكم إليها تستمدون منها العون في حلّ معضلاتكم، ودفع البلاء عنكم، واستجلاب البركات إليكم؟
وإذا قلتم - على سبيل الفرض -: إنّها شريكة في أمر الخلق والتكوين فإنّ الدليل على أمر عقائدي إمّا أن يكون نقلياً عن طريق الوحي السماوي، أو عقلياً منطقيا، أو بشهادة العلماء وتقريرهم، أمّا أنتم فلستم مستندين إلى الوحي والكتاب السماوي في دعواكم حول الأصنام، وغير قادرين من طريق العقل على إثبات اشتراكها في خلق السماوات والأرض وبالتالي إثبات كونها آلهة، ولم يرد أثر من أقوال العلماء الماضين ما يؤيد رأيكم ويدعم اعتقادكم، ومن هنا يتبين أنّ دينكم ومعتقدكم لا يعدو كونه مجموعة الخرافات، والأوهام الكاذبة.
الحلقة الثانية | أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ
نص الحلقة الثانية:
جاء هذا التعبير في الآية السابعة والعشرين من سورة هود وهي قوله تعالى حاكياً عن قوم نوح عليه السلام: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ).
(الأراذل) جمع ل (أرذل) وتأتي أيضا جمع ل (رذل) وهي تعني الموجود الحقير، سواء كان إنسانا أم شيئا آخر غيره.
ووصف هؤلاء بـ (بادي الرأي) أي الذين يعتمدون على الظواهر من دون نظر وتأمل.
لقد رد الإشراف والمترفون من قوم نوح على دعوة نبيهم – بحسب الآية - بإشكالات ثلاثة:
الأول: قالوا له أنت مثلنا ولا فرق بيننا وبينك، زاعمين أنّ الرسالة الإلهية ينبغي أن تحملها الملائكة إلى البشر لا أنّ البشر يحملها إلى البشر.
والإشكال الثاني: إنّهم قالوا: يا نوح، لا نرى متّبعيك ومن حولك إلا حفنة من الأراذل وغير الناضجين الذين لم يسبروا مسائل الحياة.
والإشكال الثالث الذي أوردوه على نوح عليه السلام أنّهم قالوا: بالإضافة إلى أنك إنسان ولست ملَكا، وأنّ الذين آمنوا بك والتفّوا حولك هم من الأراذل، فإنّنا لا نرى لكم علينا فضلاً بل نظنّكم كاذبين.
الحلقة الثالثة | أصحابُ الرّس
نص الحلقة الثالثة:
ورد ذكر أصحاب الرَّسّ في آيتين من القرآن الكريم:
في الآية الثامنة والثلاثين من سورة الفرقان، وهي قوله تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا).
وفي الآية الثانية عشرة من سورة قاف، وهي قوله عز وجل: (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ).
وقد تعدّدت أقوال المفسرين في حقيقة هؤلاء القوم إلّا أنّ أرجح الأقوال ما جاء في كتاب (عيون أخبار الرضا عليه السلام) في حديث طويل خلاصته أنّهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر، وكان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له (الرس).
وقد غرسوا في كلّ قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبّة. أجروا عليها نهراً من العين التي عند الصنوبرة، وحرّموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم، ومن شرب منه قتلوه، وقد جعلوا في كلّ شهر من السنة يوماً في كل قرية عيداً يخرجون فيه إلى الصنوبرة التي خارج القرية، يقرّبون إليها القرابين ويذبحون الذبائح..
ولمّا طال منهم الكفر بالله عز وجل وعبادة الشجرة، بعث الله إليهم رسولاً من بني إسرائيل من ولد يهودا، فدعاهم برهة إلى عبادة الله وترك الشرك، فلم يؤمنوا، فدعا على الشجرة فيبست، فلمّا رأوا ذلك ساءهم، فاجتمعت آراؤهم على قتله، فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها، وسدوا فوهتها، فلم يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات، فأتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم.
الحلقة الرابعة | الْأَكْمَهُ وَالْأَبْرَصَ
نص الحلقة الرابعة:
قال تعالى في الآية التاسعة والأربعين من سورة آل عمران حاكياً قول عيسى عليه السلام: (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
(الأكمه) قيل هو الأعمى منذ الولادة. وذهب البعض إلى أنّه من لا عينان له بالأصل.
والأبرص هو المصاب بمرض جلدي عبارة عن مساحات بيضاء واسعة على البشرة.
ولا شك أن قيام عيسى عليه السلام بكل هذه الأعمال المعجزة ومنها إبراؤه الأكمه والأبرص كان بالنسبة لعلماء الطب في ذلك الزمان أمرا خارقا لا يمكن إنكاره.
عن الإمام الرضا عليه السلام وقد سئل عن معجزات المسيح عليه السلام أنّه قال: وإنّ الله تعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات (وهي الآفات البدنية) واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله.
الحلقة الخامسة | البأساء والضراء
نص الحلقة الخامسة:
عدّدت الآية السابعة والسبعون بعد المئة من سورة البقرة مجموعة من الأمور الاعتقادية والسلوكية التي تمثّل حقيقةَ البِرَّ، ومن جملتها قوله تعالى: (..وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ..).
البأساء هي الفقر، والضرّاء هي كلّ ما يضرّ الإنسان، من مرض، أو فقد عزيز، وما إلى ذلك.
وليس القصد من الصبر على الفقر والمرض الدعوة للرضا بهما، فإنّ الإسلام قد أوجب السعي جهد المستطاع للتخلص من الفقر والمرض والجهل، ومن كل ما يعوق الحياة عن التقدم، وإنّما القصد أن لا ينهار الإنسان أمام الشدائد، وأن يتماسك ويتمالك ويعمل برويّة وثبات للتخلّص ممّا ألمّ به من النوازل..
كما وردت مفردتا البأساء والضراء في الآية الرابعة عشرة من سورة البقرة أيضا، في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ والضَّرَّاءُ)، فهي تخاطب المؤمنين بصراحة ووضوح: إنّ سنّة اللَّه قد جرت في أنصار الحق أن يدفعوا ثمنه من أنفسهم وأهلهم وأموالهم، وأن يتحمّلوا في سبيله الأذى والمكاره ويصبروا على المصائب والشدائد . . وقد لاقى من كان قبلكم من أجل الحق ألوانا من الأذى فصبروا . . فهل تصبرون أنتم كما صبروا: أم انكم تريدون أن تدخلوا الجنة بلا ثمن، وقد أبى صاحبها ومالكها إلا أن يكون ثمنها الإيمان والإخلاص والصبر على الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس..
الحلقة السادسة | أَلَتْناهُم
نص الحلقة السادسة:
ورد هذا التعبير في الآية الحادية والعشرين من سورة (الطور)، في قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
ويُشعر سياق الكلام في الآية، أنّ معنى (وما ألتناهم من عملهم) هو: وما نَقصنا من عملهم. وهو المعنى المراد فعلاً، فقد جاء في المصادر اللغوية أنّ فعل (أَلَتَ) على وزن ثَبَتَ تعني أنقص، والألْتُ هو النقصان.
أمّا مناسبة قوله تعالى: (وما ألتناهم من عملهم من شيء) في الآية المباركة، فكانت عندما عدّد سبحانه نعمه على المتّقين في الجنة، فبعد الحديث عن طعامهم وشرابهم وأزواجهم، تفضّل الله عليهم بنعمة إلحاق أولادهم المؤمنين بهم، وجعْلهم معهم في درجتهم في الجنة، وذلك حتى لو لم يكن الأولاد قد عمِلوا بعمل آبائهم، وجعَل الله تعالى هذا الفضل منه تكريماً للآباء ودون أن ينقص من عملهم شيئا لقاء ما أعطى اولادَهم، يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
الحلقة السابعة | الجاهلية الأولى
نص الحلقة السابعة:
ورد هذ التعبير في سورة الأحزاب في قوله تعالى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ * فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى..).
يظهر أنّ المراد من الجاهلية الأولى تلك التي كانت قبل البعثة النبوية الشريفة حيث كان من جملة ما هو سائد في تلك البيئة كشفُ النساء عن مفاتنهن للأجانب والتزين بما يلفت أنظار الطامعين إليهن، فجاء النهي عن تلك العادات. ولا شكّ أنّ هذا الحكم عام، والخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وآله باب التأكيد الأشد، تماما كما نقول لعالم: أنت عالم فلا تكذب، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح للآخرين، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.
إنّ تعبير (الجاهلية الأولى) يبيّن أنّ جاهلية أخرى ستأتي كالجاهلية الأولى التي ذكرها القرآن، وكلّ ناظر يرى آثار هذا التنبؤ القرآني في عالم التمدن المادي اليوم.
الحلقة الثامنة | الشجرة الملعونة
نص الحلقة الثامنة:
وردت هذه العبارة في الآية الستّين من سورة الإسراء وهي قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا).
قال العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان): (الذي يهدي إليه الإمعان في البحث أنّ المراد بالشجرة الملعونة قومٌ من المنافقين المتظاهرين بالاسلام يتعرّقون بين المسلمين إما بالنسل وإما بالعقيدة والمسلك هم فتنة للناس).
وذكرت تفاسير عدّة أخرى أنّ المقصود بالشجرة الملعونة هم بنو أمية، وأنّهم أصحاب الفتنة التي اغتمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لوقوعها من بعده، وذلك حينما رأى في منامه أنّ هؤلاء الذين طالما حاربوه بالسيف واللسان قد استولوا على كرسي الحكم الاسلامي وقعدوا على منبره.
وقد لُعنت هذه الشجرة في الآية السادسة والعشرين من سورة إبراهيم عندما وصفت بالخبيثة في قوله عز وجل: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار).
الحلقة التاسعة | الصابئون
نص الحلقة التاسعة:
ورد ذكر الصابئين في موارد ثلاث في القرآن الكريم، أوّلها في الآية الثانية والستين من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
إنّ ذكر الصائبين إلى جانب المؤمنين، واليهود، والنصارى يدلّ على أنهم جماعة يدينون بدين سماوي ويؤمنون بالله تعالى واليوم الآخر.
وقد اختلف المفسرون والمؤرخون تشخيص هوية الصابئين، ووجه تسميتهم.
فالشهرستاني في (الملل والنحل) يقول: الصابئة من صبأَ أي انحرف عن طريق الأنبياء، وهؤلاء قوم انحرفوا عن طريق الحقّ ودين الأنبياء فهم (صابئة).
ويقول الفيّومي في (المصباح المنير): إنّ صبأ تعني الخروج من الدين إلى دين آخر.
وقيل في التسمية أيضاً إنّ أصلها عبري وتعني الغوص في الماء أو التعميد.
ويعود سبب اختلاف الآراء حول هذه الطائفة التي تتواجد حالياً في العراق إلى قلّة أفرادها وإصرارهم على إخفاء تعاليمهم، وامتناعهم عن الدعوة إلى دينهم، واعتقادهم أنّ دينهم خاص بهم لا عام لكل الناس، وأن نبيّهم مبعوث إليهم لا لغيرهم.
من معتقدات الصابئة أنّ أول كتاب مقدس سماوي نزل على آدم، وبعده على نوح، ثم على سام، ثم على رام، ثم على إبراهيم الخليل، ثم على موسى، وأخيرا على يحيى بن زكريا.
الحلقة العاشرة | الصلاةُ الوسطى
نص الحلقة العاشرة:
قال تعالى في سورة البقرة الآية الثامنة والثلاثين بعد المئتين: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
ذكر المفسّرون معان مختلفة للمراد من الصلاة الوسطى، فالبعض رأى أنّها صلاة الظهر، وآخر صلاة العصر، وبعضٌ صلاة المغرب، وبعض صلاة العشاء، وبعض صلاة الصبح، وبعض صلاة الجمعة، وبعض صلاة الليل أو خصوص صلاة الوتر.
وذكروا لكل واحد من هذه الأقوال أدلّة وتوجيهات مختلفة، ولكنّ القرائن المتوفرة تُثبت أنّها صلاة الظهر، لأنّها فضلاً عن كونها تقع في وسط النهار، فإنّ سبب نزول الآية يدلّ على أن المقصود بالصلاة الوسطى هو صلاة الظهر، التي كان الناس يتخلّفون عنها لحرارة الجو، فقد روي أنّ رجلين جاءا إلى الصحابي أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان يصلي الظهر بالهجير (أي عند اشتداد الحرّ) فلا يكون ورائه إلّا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم، فأنزل الله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين).
وهناك روايات أخرى كثيرة تصرّح بأن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر.
الحلقة الحادية عشر | الْعَاكِفُ وَالْبَادِ
نص الحلقة الحادية عشر:
وردت هاتان الصفتان في الآية الخامسة والعشرين من سورة الحج في قوله عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
العكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، والمراد بالعاكف في الآية هو المقيم في مكة.
والبادِ أصلها البادي حُذفت منها الياء، وهو من لم يكن ملازما مدينة ومقيما فيها، ويراد به هنا القاصد إلى مكة.
وأمّا المقصود من كون المسجد الحرام سواء للعاكف والبادي فذهب بعضهم إلى أنّ المراد هو أنّ الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحَّد فيه الله عز وجل، وليس لأحد الحق أن يعرقل حج الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام.
ورأى آخرون معنى أوسع، وهو أنّ الناس ليسوا سواسية فقط في أداء الشعائر وإنما هم كذلك في الاستفادة من الأرض والبيوت المحيطة بالكعبة لاستراحتهم وسائر حاجاتهم الأخرى، لهذا حرّم بعض الفقهاء بيع وشراء وإيجار البيوت في مكة المكرمة.
الحلقة الثانية عشر | العروة الوثقى
نص الحلقة الثانية عشر:
ورد تعبير (العروة الوثقى) في القرآن الكريم في آيتين:
الأولى هي السادسة والخمسون بعد المئة من سورة البقرة، في قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِالله فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى)،
والأخرى هي الثانية والعشرون من سورة لقمان في قوله تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
والعروة: ما يؤخذ به من الشيء، كعروة الدلو وعروة الاناء، والأصل اللغوي لها هو التعلّق، يقال: عراه واعتراه أي تعلق به.
والوثقى مؤنّث الأوثق، وتعني: المتينة التي لا تُفكّ ولا تنفصم.
والاستمساك بالعروة الوثقى هو الأخذ بها وإمساكها بشدّة، وهو تعبير فيه استعارة للدلالة على أنّ الايمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الاناء وما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذاً مطمئناً حتى يقبض على العروة، كذلك السعادة الحقيقية لا يستقرّ أمرها ولا يُرجى نيلها إلّا أن يكفر الانسان بالطاغوت ويؤمن بالله تعالى.
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الأئمّة من ولد الحسين، من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، هم العروة الوثقى، وهم الوسيلة إلى الله عز وجل.
الحلقة الثالثة عشر | القانع والمعترّ
نص الحلقة الثالثة عشر:
وردت مفردتا (القانع والمعترّ) في الآية السادسة والثلاثين من سورة الحج في قوله تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).
فالحديث في الآية عن الأضحية في الحجّ، حيث تأمر بذكر الله تعالى عند نحرها، ثمّ ترشد إلى كيفية التصرّف بلحمها بعد خروج الروح منها بأن يُطعَم منه الفقراء والمحتاجون..
و(القانع) من القناعة، ويُقصد به الفقير الذي يقنع بما يعطى سواء سأل أم لا.
والمعترّ هو الفقير الذي يأتي طالباً الطعام، وفي ذلك جاء في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: (القانع الذي يرضى بما أعطيته ولا يسخط ولا يكلح ولا يلوي شدقه غضبا، والمعتر المارّ بك لتطعمه).
وعنه عليه السلام في رواية أخرى: المعتر يعتريك لا يسألك.
وقيل: المعترّ هو الفقير السائل الذي يطالبك بالمعونة ولا يقنع بما تعطيه، بل يحتجّ أيضاً.
وتقديم القانع على المعترّ في الآية إشارة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالمحرومين المتّصفين بالعفّة وعزة النفس.
الحلقة الرابعة عشر | القسطاس
نص الحلقة الرابعة عشر:
جاء لفظ القسطاس في القرآن الكريم في موردين:
في الآية الخامسة والثلاثين من سورة الإسراء في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
وبتعبير مشابه في الآيتين الحادية والثمانين والثانية والثمانين بعد المئة في سورة الشعراء على لسان شعيب عليه السلام في قوله عز وجل: (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ).
القسطاس بكسر القاف، وضمّها هو الميزان، قيل: روميّ معرّب، وقيل: عربي، وقيل مركّب في الأصل من القسط وهو العدل، وطاس وهو كفة الميزان.
و(القسطاس المستقيم) هو الميزان العادل لا يُخسر في وزنه.
جاء في تفسير القمّي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: (القسطاس المستقيم هو الميزان الذي له لسان). ولعلّ ذلك للدلالة على الاستقامة، فإنّ الميزان ذا الكفتين يكون كذلك.
ويرى بعض المفسرين أنّ القسطاس هو الميزان الكبير.
الحلقة الخامسة عشر | أمُّ القرى
نص الحلقة الخامسة عشر:
ورد تعبير (أمّ القرى) مرّتين في القرآن الكريم:
الأولى في الآية الثانية والتسعين من سورة الأنعام في قوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ). والثانية في الآية السابعة من سورة الشورى في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).
القرى جمع قرية وهي بلغة القرآن اسم لكلّ موضع يجتمع فيه الناس، سواء كان عدد الناس فيه كثيرا أو قليلا. أمّا كلمة (أمّ) فتعني الأصلَ والأساس والمبدأ لكلّ شيء.
وجاء في التفاسير أنّ أمّ القرى هي مكّة، وسمّيت بذلك لأنّ فيها أوّل بيت وضع للناس لعبادة اللَّه عز وجل.. وقيل: إنّها كانت مبدأ ظهور اليابسة عندما دُحيت الأرض من تحت الكعبة على في الروايات الإسلامية.
وتصريح الآيتين أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكلَّف بإنذار أمّ القرى ومن حولها مع أنّ رسالته عالمية يُحمل على كفاية إرسال الرسل إلى مركز كبير من مراكز تجمّع الناس يكون مقصداً لسائر التجمعات، ومن خلاله تُنشر العلوم والأخبار، كما انتشرت أصداء بعثة النبي صلى الله عليه وآله التي كانت في مكة - وبلغت جميع أنحاء الجزيرة العربية في فترة قصيرة.
الحلقة السادسة عشر | باغٍ ولا عادْ
نص الحلقة السادسة عشر:
وردت جملة (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ) ثلاث مرات في القرآن الكريم، وجميعها في مورد الحديث عمّا يحرم أكله من اللحوم، أوّلها في الآية الثالثة والسبعين بعد المئة من سورة البقرة، وهي قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره (الكاشف): الباغي من يرتكب الحرام من غير ضرورة، والعادي من يتجاوز مقدار الحاجة.
وقال صاحب (تفسير الميزان): فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أي غير ظالم ولا متجاوز حده، وهما حالان عاملُهما الاضطرار، فيكون المعنى: فمن اضطر إلى أكل شيء ممّا ذُكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه وعدم عدْوه فلا ذنب له في الاكل، وأمّا لو اضطر في حال البغي والعدْو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك.
الحلقة السابعة عشر | أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ
نص الحلقة السابعة عشر:
يقول تعالى في الآيات من الثلاثين إلى الثالثة والثلاثين من سورة الطور: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ).
(الأحلام) جمع حِلم ومعناه العقل، وقيل إنه في الأصل بمعنى ضبط النفس والتجلّد عند الغضب، وهو واحد من دلائل العقل والدراية.
فقد كان سادة قريش يُعرفون بين قومهم بأنّهم (ذوو الأحلام)، ولمّا ظهرت لهم دلائل نبوّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ اتهموه بالسحر قال لهم القرآن: أيّ عقول لكم هذه التي تدّعي بأن وحي السماء - الذي تكمن فيه دلائل الحق والصدق - شعر أو كهانة؟! وتزعم بأن النبي الذي عُرف بالصدق والأمانة منذ عهد بعيد، شاعر أو مجنون!؟
فبناء على ذلك إنّ هذه التهم والافتراءات ليست ممّا تقول به العقول وتأمر به، بل أساسها الطغيان والتعصب وروح العصيان والتمرد . .
الحلقة الثامنة عشر | تعضلوهن
نص الحلقة الثامنة عشر:
ورد هذا التعبير مرتين في القرآن الكريم:
في الآية الثانية والثلاثين بعد المئتين من سورة البقرة في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ..).
وفي الآية التاسعة عشرة من سورة النساء في قوله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ..).
والعضَل: المنع، والأمر المعضل هو الممتنع بصعوبته.
والمعنى في الآية الأولى: يا أيّها المؤمنون إذا طلّق أحدكم زوجته وانقضت عدّتها، وأرادت الزواج ثانية من زوجها الأول أو من غيره فلا تمنعوها منه، ولا تقفوا في سبيلها إذا تراضيا بينهما بالمعروف، أي عزَما الزواجَ على كتاب اللَّه تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
والمعنى في الآية الثانية أنّه لا يحلّ للزوج أن يسيء إلى زوجته بقصد أن تبذل له صداقها، لتفتدي نفسها منه ومن سوء معاملته، فإذا بذلت، والحال هذه، وأخذ منها المال فهو آثم، إذ لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس.
الحلقة التاسعة عشر | ثَانِيَ عِطْفِه
نص الحلقة التاسعة عشر:
يقول تعالى في الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الحج: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ).
(ثاني) مشتقة من (ثني) بمعنى التواء، و(عِطف) تعني (جانب)، فالجملة تعني (ثانيَ جانبه)، كناية عن الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.
فالآية الأولى تتحدث عمن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا لا أساس له، فلا هو مستند الى العلم بمعنى الاستدلال العقلي، ولا إلى هدى وإرشاد القادة الربانيّين، ولا إلى كتاب سماوي. وهي الادلّة الثلاثة هي المعروفة بـ الكتاب والسنّة والدليل العقلي.
ثم تبيّن الآية الثانية أحد أسباب ضلال الواحد من هؤلاء المجادلين الجهلة وهو أنّه يريد أن يضلّ الناس عن سبيل الله بغروره وعدم اهتمامه بكلام الله وبالأدلة العقلية الواضحة.
ويعقب القرآن ذلك ببيان العقاب الشديد لمن كان على هذه الحال بالقول: (له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق).
الحلقة العشرون | ثَجّاجا
نص الحلقة العشرون:
كلمة يتيمة في القرآن الكريم، وردت في الآية الرابعة عشرة من سورة النبأ، في قول الله عز وجل: (وأنزلنا من المُعصرات ماء ثجاجاً). وسياق الآية يبيّن المعنى المراد لوصف الماء بالثجاج وهو السيلان والتدفق، وهو تعبير مستخدم في لغة العرب، فقد جاء في المصادر أنّ الثج هو الصبّ الكثير.
وقد جاءت كلمة (ثجاجا) وهي وصف بصيغة المبالغة للحديث عن إحدى النعم الكبرى على الانسان، وهي نعمة نزول المطر من السماء بواسطة الغيم، الذي يحمل بخار الماء عذباً من فوق البحار المالحة ليصبّه صبّاً فوق الأراضي العطشى فيحيا به الانسان والحيوان والنبات.
وفي معنى الماء الثجاج ورد قوله تعالى في سورة عبس (أنّا صببنا الماء صبّا)، وفي سورة الجنّ (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)
وفي السيرة أنّ أهل الكوفة شكوا إلى عليّ عليه السلام إمساك المطر وقالوا له: استسق لنا. فقال لابنه الحسين عليهما السلام: قم واستسق، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اللهم معطيَ الخيرات ومنزل البركات، أرسل السماء علينا مدرارا واسقنا غيثا مغزارا، واسقنا غدقا مجللا، سحا سفوحا ثجاجا تنعش به الضعيف من عبادك، وتحيي به الميت من بلادك آمين يا رب العالمين.
الحلقة الواحدة والعشرون | خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
نص الحلقة الواحدة والعشرون:
وردت هذه العبارة في القرآن الكريم ثلاث مرات أولها في الآية التاسعة والخمسين بعد المئتين من سورة البقرة في قوله عز وجل: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا..).
عروش جمع عرش، وهنا تعني السقف. وخاوية في الأصل بمعنى خالية، ولكنها هنا كناية عن الخراب والدمار، فالبيوت العامرة تكون عادة مسكونة، أما الدور الخالية فإما أن تكون قد تهدمت من قبل، أو أنها تهدمت بسبب خلوها من الساكنين، وعليه فإن قوله وهي خاوية على عروشها تعني أن دور تلك القرية كانت كلها خربة، فقد هوت سقوفها ثم انهارت الجدران عليها، وهذا هو الخراب التام إذ أن الانهدام يكون عادة بسقوط السقف أولا، وتبقى الجدران قائمة بعض الوقت، ثم تنهار فوق السقف.
الحلقة الثانية والعشرون | دِينًا قِيَمًا
نص الحلقة الثانية والعشرون:
قال تعالى في الآية الحادية والستين بعد المئة من سورة الانعام: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(دينا قيماً) تعني الدين المستقيم، وهو الأبدي الخالد القائم المتكفل لأمور الدين والدنيا والجسد والروح. ويأتي ذكره في الآية توضيحا لمعنى الصراط المستقيم الذي عليه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. فحيث أنّ العرب كانوا يكنّون لإبراهيم عليه السلام محبّة خاصة، بل كانوا يصفون عقيدتهم ودينهم بأنّه دين إبراهيم، وفي الوقت نفسه يعيبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخالفته لعقيدتهم الوثنية نزلت الآية تقول لهم: إنّ ملة إبراهيم هي هذا الذي أدعو أنا إليه لا ما تزعمونه أنتم. فإنّ إبراهيم عليه السلام قد أعرض عن العقائد الباطلة التي كانت سائدة في عصره وبيئته، وأقبل على التوحيد حنيفاً مولّياً وجهه نحو الدين الحق والعقيدة الحقة.
الحلقة الثالثة والعشرون | رِبّيون
نص الحلقة الثالثة والعشرون:
قال تعالى في الآية السادسة والأربعين بعد المئة من سورة آل عمران: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).
الربيون جمع رِبّي، وهو من اختصّ بربه تعالى فلم يشتغل بغيره، أي هم رجال لهم تربية خاصّة الهيّة روحانيّة، وأكثر ما تظهر حقيقة نفوسهم الطاهرة عند أهوال الحرب.
ومناسبة ذكرهم في الآية أنه بعد أن نصر اللَّه تعالى المسلمين في بدر وهم قلة ضعاف، اعتقدوا أنهم منصورون في كلّ حرب ما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم . . فلمّا كانت الهزيمة يوم أُحد فوجئوا بما لا ينتظرون، فكان منهم ما كان من الفرار من ساحة المعركة وتك النبي يواجه الأعداء وحده مع قلة قليلة، فضرب اللَّه مثلا لهؤلاء المنهزمين بأتباع الأنبياء السابقين الذين صبروا على الجهاد والقتل والأسر والجراح، وتركوا الفرار ولم يولّوا مدبرين.
الحلقة الرابعة والعشرون | روحُ القُدُس
نص الحلقة الرابعة والعشرون:
ورد تعبير (روح القدس) في القرآن الكريم مرّات عدة، ثلاث منها تقول إنّ عيسى عليه السلام أيّده الله تعالى به، ومنها ما يصرح بأنه نزل بالقرآن الكريم من عند الله عز وجل.
وللمفسرين رأيان في المقصود بـ روح القدس:
قسم قالوا إنّه جبرائيل عليه السلام، وشاهدهم على ذلك قوله تعالى: (قل نزّله روح القدس من ربك بالحق). ويكون وجه تسمية جبرائيل بروح القدس حينئذ، هو أن جبرائيل ملَك، والجانب الروحي في الملائكة أمر واضح، وإطلاق كلمة الروح عليهم متناسب مع طبيعتهم، وإضافة الروح إلى القدُس إشارة إلى طهر هذا الملَك وقداسته الفائقة.
وقسم آخر من المفسرين قال: إنّ روح القدس هو القوة الغيبية التي أيّدت عيسى عليه السلام، وبهذه القوة الخفية الإلهية كان عيسى يحيي الموتى ويأتي بسائر المعاجز.
وهذه القوة الغيبية موجودة بشكل ما في جميع المؤمنين على اختلاف درجة إيمانهم. وهي الإمداد الإلهي الذي يعين الإنسان في أداء الطاعات وتحمل الصعاب، ويقيه من السقوط في الذنوب والزلات.
الحلقة الخامسة والعشرون | شيئاً إدّا
نص الحلقة الخامسة والعشرون:
قال تعالى في سورة مريم، الآيات من الثامنة والثمانين إلى الحادية والتسعين: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا).
(الإدّ) هو الشيء المنكر الفظيع، ونسبة الولد لله سبحانه من أقبح أشكال الشرك به عز وجل، لأن الله سبحانه لا شبيه له ولا مثيل، ولا حاجة له إلى الولد، ولا هو جسم ولا تعرض عليه العوارض الجسمية – لذا فكأنّ كل عالم الوجود، الذي بُني على أساس التوحيد، قد اضطرب وتصدّع إثر هذه النسبة الكاذبة.
إنّ هؤلاء المدعين لله ولدا لم يعرفوا اللهَ قط، لأنّ طلب الولد لواحد من عدة أشياء: إمّا لأن عمره ينتهي فيحتاج لولد مثله يحمل صفاته ليبقى نسله وذكره.
أو لأنه يطلب الصديق والرفيق لأنّ قوته محدودة. أو لأنه يستوحش من الوحدة، فيبحث عن مؤنس لوحدته. أو لأنه يحتاج عند كبره وعجزه إلى مساعد ومعين شاب.
وأيّا من هذه المعاني لا ينطبق على الله سبحانه، ولا يصح، فلا قدرته محدودة، ولا حياته تنتهي، ولا يعتريه الضعف والوهن، ولا يحسّ بالوحدة والحاجة، إضافة إلى أنّ وجود الولد دليل على الجسمية، ووجود الزوجة، وكل هذه المعاني بعيدة عن ذاته المقدسة.
الحلقة السادسة والعشرون | صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
نص الحلقة السادسة والعشرون:
قال تعالى في سورة النساء الآية الرابعة منها: (وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا).
(النِّحلة) في اللغة تعني الدَّين، كما أنّها تعني العطية أيضاً.
و(الصدُقات) جمع الصّداق وهو المهر.
والآية تشير إلى أحد حقوق الزوجة في الإسلام وتقول: أعطوا المهر للزوجة كاملاً، واهتمّوا بذلك كما تهتمّون بما عليكم من ديون فتؤدونها كاملة دون نقص. هذا بناء على أنّ النحلة بمعنى الدين.
وأمّا إذا أخذناها بمعنى العطية والهبة فيكون معنى الآية: أعطوا النساء كامل مهرهن الذي هو عطية من الله لهنّ.
ثم يأتي ذيل الآية إلى بيان ما من شأنه تقوية أواصر الودّ والمحبة بين الزوجين ليقول: فلو تنازلت الزوجة عن شيء من المهر ووهبته للزوج عن طيب نفسها جاز للزوج أكل الموهوب له.. وإنّما أقرّ الإسلام هذا المبدأ لكيلا تكون البيئة العائلية والحياة الزوجية ميدانا لسلسلة من القوانين والمقررات الجافة، بل يكون مسرحا للتلاقي العاطفي الإنساني، وتسود في هذه الحياة المحبة جنبا إلى جنب مع المقررات والأحكام الحقوقية.
الحلقة السابعة والعشرون | صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ
نص الحلقة السابعة والعشرون:
قال تعالى في الآية الأربعين من سورة الحج: (..وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..)
الصوامع جمع صومعة وهي مكان خارج المدينة بعيد عن أعين الناس مخصص لمن ترك الدنيا من الزهاد والعباد، وتعني في الأصل البناء المربع المسقوف.
والبيع جمع بِيعة بمعنى معبد النصارى، ويطلق عليها كنيسة أيضا.
والصلوات جمع صلاة، بمعنى معبد اليهود، ويرى البعض أنها معرّبة لكلمة (صلوتا) العبرية، التي تعني المكان المخصّص بالصلاة.
وأمّا المساجد فجمع مسجد، وهو موضع عبادة المسلمين.
والمراد من الآية: أنّ الله تعالى إن لم يدافع عن المؤمنين، ويدفع بعض الناس ببعضهم عن طريق الإذن بالجهاد، لهدّمت أديرة وصوامع ومعابد اليهود والنصارى والمساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولو تكاسل المؤمنون وغضوا الطرف عن فساد الطواغيت والمستكبرين ومنحوهم الطاعة، لما أبقى هؤلاء أثرا لمراكز عبادة الله، لأنهم سيجدون الساحة خالية من العوائق، فيعملون على تخريب المعابد، لأنّها تبث الوعي في الناس، وتعبّئ طاقتهم في مجابهة الظلم والكفر.
الحلقة الثامنة والعشرون | فَصْلُ الْخِطَابِ
نص الحلقة الثامنة والعشرون:
قال تعالى في سورة صاد الآيات من السابعة عشرة إلى العشرين: (..وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ( 19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20).
وقد ذُكر في هذه الآيات عشر صفات لداود عليه السلام، آخرها إتيانه فصلَ الخطاب، والتي تعني المنطق القوي والحديث المؤثر والنافذ، والقدرة الكبيرة على القضاء والتحكيم بصورة حازمة وعادلة.
وقد استخدمت عبارة (فصل الخطاب) لأنّ كلمة الخطاب تعني أقوال طرفي النزاع، أما (فصل) فإنها تعني القطع والفصل.
وكما هو معروف فإن أقوال طرفي النزاع لا تقطع إلا إذا حكم بينهم بالعدل، ولهذا فإن العبارة هذه تعني قضائه بالعدل.
وهناك احتمال آخر لتفسير هذه العبارة، وهو أن الله سبحانه وتعالى أعطى داود منطقا قويا يدلل على سموّ وعمق تفكيره، ولم يكن هذا خاصا بالقضاء وحسب، بل في كل أحاديثه التي يدلي بها.
الحلقة التاسعة والعشرون | قَاعًا صَفْصَفًا
نص الحلقة التاسعة والعشرون:
قال تعالى في سورة طه الآيات من الخامسة بعد المئة إلى السابعة بعد المئة: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا).
القاع: الأرض المستوية السهلة المنفرجة. والصفصف: المستوي المطمئنّ. ومنه قوله عز وجل (والطيرُ صافّات) أي باسطة أجنحتها مطمئنة.
وسؤال المشركين النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عن الجبال يوم القيامة مرتبط بعقيدتهم المنكرة له، وعجبهم من الجبال المرتفعة، وكيفيّة اندكاكها وانتسافها.
فقال تعالى في جوابهم: قل لهم يقلعها ربّي ويثيرها ويفرّقها فتصير مستوية مسطَّحة كأنّها قد تغربلت بعد الاندكاك، ولم يبق منها ارتفاع ولا انخفاض.
قال تعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا). وقال عز من قائل: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا).
الحلقة الثلاثون | قومُ تُبَّع
نص الحلقة الثلاثون:
وردت عبارة (قومُ تبّع) في القرآن الكريم مرّتين: الأولى في الآية السابعة والثلاثين من سورة الدخان في قوله تعالى: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ).
والثانية في الآية الرابعة عشرة من سورة (قاف) في قوله عز وجل: (وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ).
و(تُبّع) كان لقباً عاماً لملوك اليمَن، كـ(كسرى) لسلاطين إيران، وخاقان لملوك الترك، وفرعون لملوك مصر، وقيصر لسلاطين الروم.
والظاهر أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن أحد ملوك اليمن خاصّة الذي ورد في الروايات أنّ اسمه (أسعد أبا كرب).
ويرى بعض المفسرين أنّ تُبّعاً هذا كان رجلاً مؤمناً، بدليل أنّ القرآن لم يذمّه وذمّ قومه، ولرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول فيها: (لا تسبّوا تُبّعاً فإنّه كان قد أسلم).
وجاء في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: (إنّ تبّعاً قال للأوس والخزرج: كونوا ها هنا حتى يخرج هذا النبي، أما لو أدركته لخدمته وخرجت معه).
وورد في رواية أخرى أنّه قال لهم: (أقيموا بهذا البلد – أي يثرب- فإن خرج النبي الموعود فآزروه وانصروه، وأوصوا بذلك أولادكم، حتى أنه كتب رسالة أودعهم إياها ذكر فيها إيمانه بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
الحلقة الواحدة والثلاثون | مَفَاتِحُ الْغَيْبِ
نص الحلقة الواحدة والثلاثون:
قال تعالى في الآية التاسعة والخمسين من سورة الأنعام: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
مفاتح جمع مِفْتَح – بكسر الميم - وهو المفتاح، أمّا لو قيل إنها جمع مَفتح – بفتح الميم -فهي بمعنى الخزانة.
وعلى الرأي الأول يكون المعنى: إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله عز وجل.
وعلى الرأي الثاني يكون المعنى: إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله تعالى.
ويُحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة، وكما هو ثابت في علم الأصول، فإنّ استعمال لفظة واحدة لعدّة معان لا مانع منه، وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان، لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.
وأغلب الظن أنّ مفاتح بمعنى مفاتيح لا بمعنى خزائن لأن الهدف من الآية هو بيان علم الله، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية.
الحلقة الثانية والثلاثون | نَنقُصها من أطرافها
نص الحلقة الثانية والثلاثون:
ورد الحديث عن نقص الأرض من أطرافها في آيتين من كتاب الله تعالى، الأولى هي الحادية والأربعون من سورة الرعد في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
والثانية هي الرابعة والأربعين من سورة الأنبياء في قوله عز وجل: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ).
قال العلامة الشيخ محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف: الأرض كرة لا أطراف لها كما للجسم المسطح، ولكنّها كبيرة تتسع لملايين الأجناس والأنواع من الكائنات والمخلوقات، وهي في تغيّر دائم . . فبينا يرى الإنسان أو يسمع أنّ هذه البقعة من الأرض آهلة بالسكان وأسباب الحضارة وأنواعها، وتلك البقعة صحراء جرداء، وإذا بالآهلة خراب يباب، وبالصحراء جنات وعيون . . وأهل الأرض كذلك:
حضارات تحيا، وأخرى تموت، ومُلك يقوم، وآخر يزول.. وهكذا دواليك، لا يدوم بؤس ولا نعيم في هذه الأرض، وقوله تعالى: (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) يشير إلى هذا المعنى، وأنّ العاقل يتعظ ويعتبر بهذه التقلبات والتغيرات.
وقال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: إتيان الأرض ونقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة والاهلاك.
وفي المروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ننقصها بذهاب علمائها وفقهائها وأخيارها.
الحلقة الثالثة والثلاثون | وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
نص الحلقة الثالثة والثلاثون:
وردت هذه الوصية في القرآن الكريم من جملة وصايا لقمان الحكيم لولده، حيث قال له: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ).
والقصد، هو الوسط بين الافراط والتفريط، وقيل: هو الاعتدال في الشيء. والمعنى : وخذ: بالاعتدال في مشيك.
وهنا، تنطبق الآية على المعنى المشهور للمشي فيكون المراد عدم الإسراع في المشي وعدم الإبطاء فيه .. وهي تنطبق أيضا على المشي بمعنى الحركة في الحياة عموماً فيكون المراد حينئذ أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، فلا يتّجه المرء لترك ملذاتها تماما ولا يكون اندفاعه لأخذ كل ما تناله يداه منها، وهكذا رعاية الاعتدال في العمل، والكلام، وفي كل أمر.
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: (إنّ الله تبارك وتعالى فرض الإيمان على جوارح ابن آدم وقسّمه عليها وفرّقه فيها - إلى أن قال: وفرض على الرجلين أن لا تمشي بهما إلى شيء من معاصي الله، وفرض عليهما المشي إلى ما يرضي الله عز وجل، فقال تعالى (ولا تمش في الأرض مرحا)، وقال: (واقصِد في مشيك).
الحلقة الرابعة والثلاثون | ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً
نص الحلقة الرابعة والثلاثون:
وردت هذه الجملة في الآية الأخيرة من سورة البقرة وهي قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
الإصرُ حبس الشيء، ويطلق على الحِمل الثقيل الذي يمنع المرء من الحركة، وكذلك على العهد المؤكّد الذي يقيّد الإنسان، كما يطلق على العقاب لما فيه من تقييد المعاقَب.
وفي هذا المقطع من الآية يطلب المؤمنون من الله تعالى طلبين: الأول أن يرفع عنهم الفروض الثقيلة التي قد تمنع الإنسان من إطاعته عز وجل..
وفي الطلب الثاني يريدون منه أن يعفيهم من الامتحانات الصعبة والعقوبات التي لا تطاق بقولهم: (ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به).
الحلقة الخامسة والثلاثون | ما ذُبح على النُّصُب
نص الحلقة الخامسة والثلاثون:
ذكرت الآية الثالثة من سورة المائدة أحدَ عشر عنواناً من عناوين اللحوم التي التي يُحرم أكلها، منها (مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
فقد كان الوثنيون في العصر الجاهلي ينصبون صخوراً حول الكعبة ليست على أشكال أو هيئات معينة، وكانوا يسمّون هذه الصخور ب (النصب) حيث كانوا يذبحون قرابينهم أمامها ويمسحون الصخور تلك بدم القربان.
والفرق بين النُّصب والأصنام هو أنّ النصب ليست لها أشكال وصور بخلاف الأصنام، وقد حرّم الإسلام لحوم القرابين التي كانت تذبح على تلك النصب، فجاء حكم التحريم في الآية بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ).
وواضح أنّ تحريم هذا النوع من اللحوم إنّما يحمل طابعاً معنوياً وليس
ماديا، وهو يُعتبر من تلك القرابين التي تدخل ضمن مدلول العبارة القرآنية: (وما أُهِلّ لغير الله به) وقد ذكِر بشكل خاصّ في الآية بسبب رواجه لدى عرب الجاهلية.
الحلقة السادسة والثلاثون | يأجوجُ ومأجوج
نص الحلقة السادسة والثلاثون:
ذكرتْ (يأجوج ومأجوج) مرتين في القرآن الكريم:
الأوّلى في سورة الكهف الآية الرابعة والتسعين، في قوله تعالى: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
والثانية في سورة الأنبياء الآية السادسة والتسعين، في قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ).
ويأجوج ومأجوج هما قبيلتان همجيتان، ورد ذكرهما في التوراة باسم (كودك) و(ماكوك).
ويُستفاد من مجموع ما ذكر في التاريخ أنّهم مجاميع كبيرة كانت تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا، وهم أناس محاربون يغيرون على الأماكن القربية منهم.
جاء في تفسير الأمثل: ثمّة أدلّة تأريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي (مغولستان) كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.
وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم، وقد تمت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي، بقيادة (آتيلا) وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الأمبراطورية الرومانية.
وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثاني عشر الميلادي بقيادة جنگيز خان، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية.
الحلقة السابعة والثلاثون | يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ
نص الحلقة السابعة والثلاثون:
قال تعالى في الآية الثامنة والتسعين من سورة التوبة: (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
(التربص) الانتظار، وقيل: هو المفهوم المركَّب من الصبر والانتظار توقّعاً لحدوث أمر ما. و(الدوائر) جمع دائرة، وهي التي تحيط بما في داخلها، وكان العرب يقولون للحادثة الصعبة والأليمة التي تحل بالإنسان: دائرة.
فقد كان قسم من منافقي الأعراب أو ضعيفي الإيمان منهم عندما ينفقون شيئا في سبيل الله يعتبرون ذلك ضررا وخسارة لحقت بهم، لا أنّه توفيق ونصر وتجارة رابحة.
ولأن هؤلاء ضيّقو النظر، وبخلاء وحسودون وكانوا ينتظرون أن تحيط بالنبي صلى الله عليه وآله والمسلمين المصائب والنوائب والمشاكل يقول القرآن لهم: إنّ دائرة السوء ستحلّ بكم في نهاية المطاف، والله تعالى سميع عليم، فهو تعالى يسمع كلامكم، ويعلم بنياتكم ومكنون ضمائركم.
الحلقة الثامنة والثلاثون | يلقون أقلامهم
نص الحلقة الثامنة والثلاثون:
قال تعالى في الآية الرابعة والأربعين من سورة آل عمران: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).
تشير الآية إلى جانب من قصة مريم عليها السلام، فبعد أن وضعتها أمّها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها: هذه المولودة قد نُذرت لخدمة بيت الله، فليتعهّد أحدكم بتربيتها. ولمّا كانت مريم من أسرة معروفة، هي أسرة آل عمران، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها، ثم اتفقوا على إجراء القرعة بينهم، فجاؤوا إلى شاطئ نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيهم التي كانوا يقترعون بها. وقد كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام – وهي السهام - وألقوها في الماء، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء: غطس القلم الذي كُتب عليه اسم زكريا عليه السلام، ثمّ عاد وطفا على سطحه، وبذلك أصبحت مريم في كفالته.
الحلقة التاسعة والثلاثون | من يوقَ شح نفسه
نص الحلقة التاسعة والثلاثون:
ورد هذا التعبير مرتين في كتاب الله عز وجل: في الآية التاسعة من سورة الحشر، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وفي الآية السادسة عشرة من سورة التغابن، وهي قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
و(الشحّ) هو البخل مقترنا بالحرص، و(يوق) من الوقاية، والمعنى: أنّ كل شخص حفظه الله سبحانه من هذه الصفة الذميمة فإنه سيفلح. وقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لأحد أصحابه: أتدري ما الشح؟ فأجاب: هو البخل. قال عليه السلام: (الشح أشد من البخل، إنّ البخيل يبخل ممّا في يده، والشحيح يشحّ بما في أيدي الناس وعلى ما في يده، حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عز وجل.
الحلقة الاربعون | يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
نص الحلقة الاربعون:
ورد هذا التعبير القرآني في الآية الثانية والأربعين من سورة القلم في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ).
قال جمع من المفسرين إنّ هذا القول كناية عن شدة الهول، والخوف، والرعب، وسوء حال الجاحدين المتكبرين يوم القيامة، إذ إنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمراً صعباً أنهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدي إلى كشف سيقانهم.
وفي جواب ابن عباس المفسر المعروف عندما سئل عن معنى الآية قال: كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، ألم تسمعوا قول الشاعر: وقامت الحرب بنا على ساق، إنّ هذا القول كناية عن شدة أزمّة الحرب.
وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل الشيء وأساسه، كساق الشجرة، وبناء على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كل شيء يتّضح ويتبين في ذلك اليوم..