من علوم القرآن

الحلقة الأولى | الوحي الرسالي

 

نص الحلقة الأولى: 

هو وسيلة الاتصال بين الباري عزّ وجلّ وبين سفرائه إلى خلقه، أي الأنبياء عليهم السلام. 
وعن طريق الوحي الرِّسالي يتمّ تلقّي المعارف والأحكام وغير ذلك من شؤون الرسالة. وهذا القسم هو الأكثر استخداماً في القرآن الكريم، وفي الروايات الشريفة. 
والوحي الرِّسالي النازل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي لأغراض عدّة ومضامين شتّى، منها: بيان الذكر الحكيم والقرآن الكريم، الذي هو نصّ كلام الله سبحانه وتعالى المنزل على رسوله، وهو المتّصف بالإعجاز.
ومنها تأويل وتفسير كلام الله تعالى الوارد في القرآن الكريم.
ومنها: بيان الأحاديث القدسية التي لا تدخل في الوحي القرآني.
وللوحي الرِّسالي أساليب متعدّدة ورد ذكرها في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، ومن هذه الأساليب: 
أولاً- التكليم المباشر دون توسّط الملاك: وهذا الأسلوب من الوحي يتمّ حال اليقظة كما في قصة نبيّ الله موسى عليه السلام: ﴿وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾. 
ثانيا- الإيحاء بواسطة ملَك: وهذا الأسلوب له شواهد عديدة جداً في القرآن، ولعله الأكثر شيوعاً والأغلب وقوعاً. قال تعالى في قصة نبيّ الله زكريا عليه السلام: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ﴾. وقال سبحانه في الحديث عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ﴾.
ثالثاً من أساليب الوحي الرسالي: الرؤيا في المنام، ولهذا الأسلوب من الوحي في القرآن الكريم شواهد عدّة، منها قوله تعالى في قصة النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. فقول إسماعيل عليه السلام: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ يكشف عن أنّ رؤيا والده تلك كانت وحياً وأمراً إلهيّاً بُلّغ إياه عن طريق الرؤيا، وما كان النبيّ إبراهيم عليه السلام ليقدم على ذبح ولده لمجرّد رؤيا لو لم تكن تلك الرؤيا وحياً وأمراً إلهيّاً لازماً بالنسبة إليه.

 

 
 

 

الحلقة الثانية | نزول القرآن

 

نص الحلقة الثانية: 

نزل القرآن الكريم من عند الله عز وجل بألفاظه نفسها التي قرأها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الناس، وهذا يجعل لتلك الألفاظ قدسية، يُتعبّد بتلاوتها، ولا يجوز تبديلها بغيرها، ولا التصرّف بها، حتى بالمرادفات.
ويشهد على كون القرآن نازلاً بلفظه من عند الله تعالى، توجيه الخطاب في كثير من آياته إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعبارة ﴿قُلْ﴾، حيث تكرّرت في أكثر من ثلاثمائة مورد، ما يدلّ على عدم تدخّل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في صياغة الوحي، فهو مخاطب به لا متكلّم، حاكٍ لما يسمعه لا معبّر. وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾. 
وقد ورد في الكثير من النصوص المروية عن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم أنّ أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. 

ولا خلاف في أنّ بدء نزول القرآن الكريم كان في شهر رمضان المبارك، فقد قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾. وقال عز من قائل: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾. والمعلوم أنّ ليلة القدر هي ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان المبارك. 
ثم توالى نزول الآيات والسور بعد ذلك في فترات مختلفة، على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين بعثته ووفاته في مدة ثلاث وعشرين سنة، يقول تعالى: ﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً﴾.

 

 
 

 

الحلقة الثالثة | المكي والمدني

 

نص الحلقة الثالثة: 

رافق نزولُ القرآن حياةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرِّسالية، ونزلت آياته وسوره لتلبّي احتياجات المرحلة التي كانت تعيشها الرسالة، وتتناسب مع الظروف والتطوّرات التي رافقت الدعوة الإسلامية آنذاك.
وقد شكّلت هجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنوّرة نقطة تحوّل رئيسة قسّمت الحياة الرِّسالية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى مرحلتين متمايزتين:
- المرحلة المكية: وهي مرحلة الدعوة.
- والمرحلة المدنية: وهي مرحلة الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي.
وقد تبع ذلك تغيّر في طبيعة السور القرآنية النازلة بعد الهجرة. 
عني الباحثون بدراسة المكي والمدني من السور، نظراً لما يترتّب على ذلك من فوائد وثمرات يُستفاد منها في التفسير وفي استنباط الأحكام الشرعية. 
وهناك أمور اعتُبرت علامات تشير إلى زمن نزول الآية، وهل أنها مكية في مرحلة ما قبل الهجرة النبوية أم مدنية بعد الهجرة المباركة، وهذه العلامات ليست قطعية، وإنما مرجّحات تساعد على تحديد المكي من المدني.
فقيل إنّ من علامات السور المكية احتواءها على خطاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ بناءً على أنّ طبيعة المرحلة المكية هي الخطاب العام لكل الناس، لا للمؤمنين.
وقيل إنّ البدء بالحروف المقطعة مثل (ا ل ر) وغيرها من علامات السور المكية، عدا سورتي البقرة وآل عمران فهما مدنيتان وتبدآن ب (أ ل م).
وقيل إنّ كل سورة فيها لفظ (كلا) فهي مكية.
أمّا علامات السور المدنية فذكروا أنّ ما فيه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، فهو مدني حيث قد تكوّن المجتمع الإيماني الذي بدأت تخاطبه الآيات بـهذا الخطاب في المدينة بعد الهجرة. 
وقالوا: ما كان من الفرائض والسنن وتفاصيل السنن والحدود والأحكام من الآيات والسور فإنما نزل بالمجتمع المدني حيث الدولة الإسلامية وسن الشَّرائع والقوانين.

 

 

 

الحلقة الرابعة |       تدوين القرآن الكريم

 

نص الحلقة الرابعة: 

لا ريب في أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حرص على تدوين الوحي، فاشتهر العشرات من أصحابه بأنهم من كتّاب الوحي في حياته الشريفة، وقد عدّ بعضهم ثلاثة وأربعين كاتباً ممّن شاركوا في كتابة الوحي ما يدلّ على شدّة اهتمام الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الكتابة والتدوين، نظراً لأهمية القرآن الكريم في الدّين الإسلامي، ومكانته كآخر كتاب سماوي، وضرورة الدقة في الحفاظ عليه بكل ما فيه من خصوصيات، لا سيما أنه المصدر الأول من مصادر الشريعة الإسلامية الحقّة.
وقد كان يفرض النزولُ التدريجي للقرآن كتابتَه في صحف متفرقة ومقطّعة، فلم تكن في بداية الأمر مجموعة ومؤلّفة في كتاب له دفّتان، وبعد مضيّ الزمن أصبح القرآن كتاباً كاملاً محفوظاً بين دفًتين.
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يشرف بنفسه على تدوين القرآن الكريم، وتأليف سوره، وجمع الصحف المدوّنة بشكل مستمر. ولم يرحل عن دار الفناء إلا وهو مطمئن النفس مرتاح البال تجاه هذه الأمانة العظمى والمعجزة الكبرى. وهذا المصحف المقروء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان متوفّراً عند عدد من الصحابة الكرام، بالإضافة إلى القطع والأجزاء المتفرّقة عند المئات بل الآلاف من المسلمين، الذين لم تتوفّر لهم فرصة الحصول على نسخة كاملة، فكتب ما تيسّر له وما سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة أو أقرأه إياه بعض القراء.

 

 
 

 

الحلقة الخامسة | الرسم القرآني

 

نص الحلقة الخامسة: 

كانت كتابة المصاحف مجرَّدة عن علامات الشَّكل والنّقط والإعجام، حيث إنّ الخط الكوفي كان إلى ذلك الحين مجرّداً عن الزَّوائد، بل لم يدوَّن في تلك المصاحف أي نوع من أنواع الزِّيادة التّوضيحية مثل أسماء السّور وأرقام الآيات.
وأوّل من تصدّى لوضع الحركات الإعرابية هو أبو الأسود الدؤلي المتوفي سنة تسع وستين للهجرة وذلك بعد أن سمع من يلحن بالقراءة، فاستعمل مداداً يخالف لونه اللون الذي كتب به القرآن، وقال للكاتب: "إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه، وإن ضممتُ فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة نقطتين.. ومعلوم أنّ أبا الأسود الدؤلي كان قد أخذ أصول النحو عن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي وضع له قواعده ولقّنه أصوله وأمره بتفصيل ما أجمله له ليرجع إليه من كان في لسانه عجمة للتخلُّص من اللحن في الكلام.
وقد أكمل عمل أبي الأسود من بعده اثنان من تلامذته، هما: يحيى بن يعمر العدواني ونصر بن عاصم الليثي حيث وضعا النقاط على الحروف، في عملية أطلق عليها اسم الإعجام، وذلك للتمييز بين الحروف المتشابهة في الرسم كالجيم والحاء والخاء، فصار لكل حرف صورة تميّزه عن صورة غيره من الحروف...
وقد اعتمد نساخ المصحف في البداية للتمييز بين نقاط الإعجام ونقاط الحركات اختلاف اللّون، فاستعملوا ثلاثة ألوان، لوناً للكتابة، ولوناً للنقط التي تميز الحروف المعجمة من المهملة، ولوناً للنقط التي ترمز إلى الحركات.. لكن الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى في السنة السبعين بعد المئة ابتدع أشكالَ الحركات، فميّزها عن نقاط الحروف، فجعل لكلِّ حركة حرفاً صغيراً بدل النقط، فوضع للضمة واواً صغيرة، وللكسرة ياءً مردفة تحت الحرف، وللفتحة ألفاً مائلة فوق الحرف. وأضاف إلى ذلك علامة الهمز والتشديد..
أما على صعيد الرسم القرآني أي الإملاء فقد بقي الرسم العثماني هو الأساس.
 

 
 

 

الحلقة السادسة | سلامة القرآن من التحريف

 

نص الحلقة السادسة: 

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾. وهذه الآية الشريفة تدلّ دلالة تامّة على سلامة القرآن الكريم، وأنه محفوظ من التغيير والتحريف اللفظي، والمراد من حفظه صيانته من التلاعب والتغيير والضياع، ولا شك أن مثل هذا الحفظ لا يصحّ إلاّ مع بقائه بمتناول أيدي البشر عامة الذين نزل لهدايتهم. ولا يصحّ إطلاق مثل هذا الحفظ على بقائه بأيدي جماعة خاصة مع عدم إمكان وصول الناس إليه.
هذا وقد وردت روايات عديدة تقتضي سلامة القرآن وحفظه من أيدي التحريف، منها روايات التي تأمر بعرض الأخبار على كتاب الله  تعالى بهدف تمييز الروايات الصحيحة عن الموضوعة، فهو بمثابة الميزان لقياس الصحيح منها من الفاسد، فإذا فُرض أن القرآن الكريم محرّفاً فكيف يصحّ الأمر بالعرض عليه؟ وكيف يتمّ جعله مقياساً لذلك؟! إذاً لا بد أن يكون المقياس وهو القرآن الكريم سالماً من أيّ تحريف حتى يصحّ العرض عليه. 
ومن الروايات التي تقتضي سلامة القرآن من التحريف الرواية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تأمر بالتمسّك بالثّقلين وما في معناها من الروايات الآمرة بالتمسّك بالقرآن، واتخاذه إماماً، والتي تصفه بأنه نور وهداية وناصح، وأنه لا عوج فيه، وأنه عصمة للمتمسّك به، ونجاة للمتعلّق به وأمثال ذلك.
كذلك فإن القرآن الكريم متواتر حفظاً وتدويناً، فعلى صعيد التدوين، معلومٌ أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخدم في كتابة الوحي عشرات الكُتّاب وانتشر التدوين بصورة واسعة جداً، وعلى صعيد الحفّاظ فقد كان عددهم بالمئات بل الألوف، وقد استمرّ هذا التواتر في كل الأجيال وجميع العصور حتى يومنا هذا.

 

 

 

الحلقة السابعة | المحكم والمتشابه

 

نص الحلقة السابعة: 

الإحكام في اللغة: يعني الإتقان، ويوصف به الكلام إذا كانت دلالته على المراد واضحة، بحيث لا تحتمل وجوهاً أخرى من المعاني. ومن هنا كان المحكم هو الذي لا تعتريه شبهة من حيث الدلالة والمعنى، ولا يتعدّد فيه احتمال المعنى.
وأما المتشابه: فهو مأخوذ من تشابه الوجوه أي تماثل بعضها مع بعض آخر، بحيث يحتمل وجوهاً متعدّدة من المعاني. ومن ثمّ كان المتشابه ما فيه شي‏ءٌ من الخفاء، فكان ظاهره لا ينبئ بنفسه عن المراد، ما لم يرجع إلى المحكم من القرآن الكريم، أو القرائن والدلالات الواردة في الروايات الواردة عن أهل بيت النبوة عليهم السلام الكاشفة عن الدلالة الصحيحة أو المعنى المراد.
وقد يسأل سائل أنّه ما الحكمة في وجود المتشابه في القرآن؟
والجواب: إنّ القرآن الكريم تصدّى لبيان أمور كثيرة غير محسوسة، ولا يمكن تصويرها ولا التعبير عنها بالطريقة المتعارفة، إلا إذا استعين بالمجازات والاستعارات والكنايات، وتقريب تلك المعاني بتشبيهها بالمحسوسات، وذلك إما لضيق العبارات، وعجز الألفاظ، وإما لعجز الأذهان البشرية العادية عن إدراك تلك المعاني إما لدقّتها أو لخفائها عن غير أهلها. 
وقصور الذهن البشري بشكل عام عن إدراك المعنى الدقيق والكامل للقرآن لا يعني ذلك أبداً خروج القرآن الكريم عن كونه كتاب هداية وبيان ونور، ولا ينافي ذلك أبداً وجوب التدبّر في آياته والغوص في أعماقه واستخراج مكنوناته، فإنّ الطريق إلى معرفة المعاني المقصودة في الآيات المتشابهة مفتوح وذلك عن طريق ردّ المتشابه إلى المحكم، وتفسيره على ضوء ما هو مبيّن في الآيات المحكمات، وعن طريق الرجوع إلى الراسخين في العلم: وهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأهل بيته المعصومون عليهم السلام ورثة علمه وباب مدينته وخزّان وحيه.
 

 

 

الحلقة الثامنة | أهل الزيغ ومتشابه القرآن

 

نص الحلقة الثامنة:

يقسم القرآن الكريم مواقف الناس في تعاملهم مع الآيات المتشابهة فيه إلى قسمين: أهل الزيغ والضلال، والراسخون في العلم.
وأمّا القسم الأوّل فهم إمّا أهل الظاهر الذين يقفون عند ظاهر اللفظ دون الاهتمام بما ينتج عن ذلك من مخالفة صريحة للمحكمات، والالتزام بما لا ينسجم مع العقائد الأساسية الثابتة بالعقل والنقل، وإمّا أهل الزيغ ومرضى القلوب، فهؤلاء يتعمّدون التحريف والتأويل والتصرّف في المعاني بحسب أهوائهم.
ولقد تسبّب أهل الزيغ في خلق حالة التشكيك والخفاء في الآيات المتشابهة نتيجة الخوض في الشبهات والسجالات الكلامية، وأبعدوا بذلك المعاني القرآنية عن متناول الأيدي عند كثير من الناس.
وأما القسم الثاني وهم الراسخون في العلم فهم يعلمون بتعليم من الله عز وجل تأويل المتشابه بل البطون العميقة للقرآن الكريم. يقول الإمام الباقر عليه السلام كما روي عنه: "إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الراسخين في العلم، قد علم جميع ما أنزل الله من التنزيل والتأويل، وما كان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه تأويله".
وأما الروايات التي تصرّح بأنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الراسخون في العلم فكثيرة جدّاً ومستفيضة.
ومن نماذج الآيات المتشابهات قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾. فلا شك أنّ الاستواء على العرش بمعنى الجلوس عليه غير جائز عليه تعالى، فلا بد من حملها على معنى السيطرة والاستيلاء والقدرة، وهو معنى يستفاد من الآية المحكمة: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾. 
 

 
 

 

الحلقة التاسعة | الإعجاز القرآني

 

نص الحلقة التاسعة: 

الإعجاز في مصطلح علوم القرآن الكريم هو أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية (كالنبوّة) بما يخرق العادة، ويعجز عنه غيره من البشر كشاهد ودليل على صدق دعواه. والقرآن الكريم هو معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تحدّى الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله.. ولقد مضت القرون المتطاولة ولم ينجح أحد في مواجهة هذا التحدي.. 
وممّا يزيد من كون القرآن معجزة  ربانية أنه جاء به من لم يتلقّ العلم من أحدٍ من البشر، ومع ذلك فقد أعجز أهل البيان والبلاغة.. وإنّ بلاغته لا تقاس بالنَّظم، والفصاحة، والمحسّنات البديعية فقط دون ملاحظة المعاني التي يراد صياغة الكلام لبيانها وإيصالها إلى المخاطب..
فقد تمكّن القرآن الكريم من أن يؤدّي المعارف المتنوّعة والسّامية التي تناسب كل مستويات البشرية، ويورد الإشارات العلمية وأسرار الخليقة وأصول النظام الكوني، دون أن يكون ذلك مخلّاً بإمكانية إيصال المطلوب إلى أهله، فهو يوصل لعوام الناس سهمهم من المعارف، ويوصل إلى ذوي البصائر والعقول العلمية حصّتهم.
وهناك جوانب إعجازية أخرى في القرآن الكريم تتمثّل في الإخبارات الغيبية، والكشف عن الجوانب الخفية من قصص الأنبياء عليهم السلام والأمم السالفة. قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
 

 

 

الحلقة العاشرة | علم التفسير

 

نص الحلقة العاشرة: 

التفسير لغة ًهو كشف معنى اللفظ وإظهاره. واصطلاحاً هو استخراج المعاني المستورة والمحتبسة تحت الألفاظ، والكشف عن مقاصدها ومداليلها، وفق مجموعة من القواعد والضوابط مرعيّة الإجراء.
والله سبحانه دعا إلى استنباط معاني القرآن وأوضح السبيل إليه، ومدح أقواماً عليه، فقال: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، وذمّ آخرين على ترك تدبّره، والإضراب عن التفكّر فيه، فقال: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. 
وقد بدأت رحلة تفسير القرآن مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بوصفه المفسّر والمبيّن الأوّل والأجدر لكتاب الله، قال عز وجل: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وقد تصدّى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لتفصيل ما أُجمل في القرآن إجمالاً، وبيان ما أبهم منه إمّا بياناً في أحاديثه الشريفة وسيرته الكريمة، وإمّا تفصيلاً جاء في جلّ تشريعاته، من فرائض وسنن وأحكام وآداب.
 
وأخذ عنه صلى الله عليه وآله وسلم الإمام عليّ عليه السلام هذه العلوم والمعارف، ثمّ الأئمّة عليهم السلام من بعده، وقدّمهم النبي إلى الأمّة، بوصفهما متلازمين لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، وأمرهم بوجوب التسمّك بهما، على ما ورد في حديث الثقلين المرويّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم والمتواتر تواتراً معنويّاً عند الفريقين.
وقد برز في علم التفسير مجموعة من الصحابة، وأخذ عنهم التابعون وتابعو التابعين، ومنهم: عبد الله بن عبّاس، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وغيرهم. 
 


 

2024-07-31 | 112 قراءة