النبي إسماعيل (ع)

دعوة إبراهيم (ع)
يروي المؤرخون أن نبي الله إبراهيم (ع) كان متزوجاً من سارة أخت نبي الله لوط (ع)، وهي ابنة خالته، وأنه لم يرزق منها بولد طوال أكثر من عشرين عاماً، فدعا إبراهيم ربَّه قائلاً: {ربّ هب لي من الصالحين}.
وكانت سارة تعلم برغبة إبراهيم (ع) في أن يصبح أباً ويكون له ولد يعينه في حياته ويرثه بعد مماته. وكانت لها جارية مصرية قبطية، اسمها هاجر، فوهبتها له، ليتزوجها عسى أن يتحقق له مايريد.
وهكذا حقق الله دعوة خليله إبراهيم (ع)، وحملت هاجر {فبشرناه بغلام حليم}، هو اسماعيل (ع).
ارتفعت نفس هاجر بعد حملها، وراحت تتباهى وتتكبر على سيدتها سارة، فاغتاظت سارة ولحقتها الغيرة، فكانت تدور بينها وبين هاجر خلافات كالتي تحصل بين الزوجتين في البيت الواحد، ولكن إبراهيم (ع) كان يوفق بينهما في كل مرة.
وظلت الحال كذلك حتى ولدت هاجر إسماعيل (ع) وإبراهيم (ع) في السادسة والثمانين من العمر، وسارة قد بلغت سن اليأس من الإنجاب، فتعاظمت غيرة سارة، وبات إبراهيم (ع) في حيرة في أمره، كيف يستطيع التوفيق بينهما وهو في هذا العمر شيخ كبير.
وبدأ إبراهيم (ع) يناجي ربه، ويطلب إليه أن يعينه ويساعدهُ، فبشره الله سبحانه بولدين آخرين تنجبهما سارة: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. قالت: يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إنّ هذا لشئ عجيب. قالوا أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.
بعد خمس سنوات على ولادة إسماعيل (ع) أنجبت سارة إسحاق (ع) وهكذا صار لإبراهيم ولدان: إسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة... ولحكمة أرادها الله، وتحاشياً لما قد يقع بين الزوجتين وولديهما من الخلاف والمشاحنات أمر الله سبحانه خليله إبراهيم (ع) أن يخرج بإسماعيل وأمه هاجر، ويبتعد بهما عن سارة، التي اغتمت كثيراً وثقل عليها أمر هاجر وودلها إسماعيل، بعد أن صار لها ولد.

بوادٍ غير ذي زرع
أذعن إبراهيم (ع) لأمر ربه، فخرج بهاجر وابنها إسماعيل، وهو لا يدري إلى أين يأخذهما، فكان كل ما مرّ بمكانٍ أعجبه فيه شجر ونخل وزرع قال: إلى ههنا يا ربّ؟ فيجيبه جبرائيل (ع): امض يا إبراهيم...
وظلَّ خليل الله وهاجر سائرين، ومعهما ولدهما الرضيع إسماعيل حتى وصلوا إلى مكة، حيث لازرع هناك ولاماء، اللهم إلاّ دوحة ألقت عليها هاجر كساءً كان بحوزتها، ليظلهم من حرِّ الشمس اللاهبة.
أراد إبراهيم (ع) أن يترك هاجر وولدها إسماعيل، في ذلك المكان القاحل المقفر، حيث لا دار ولا نافخ نار، ولا طعام فيه ولا شراب، إلاّ كيس من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء كانوا قد حملوهما معهم عند بدء رحلتهم. فخافت هاجر على نفسها الجوع والعطش، وعلى ولدها الهلاك، فتعلقت بإبراهيم (ع) تريد ألا تتركه يذهب، وراحت تساله: إلى أين تذهب يا إبراهيم وتتركني وطفلي في هذا المكان الذي ليس فيه أنيس، ولا زرع ولا ماء؟!.. أو ما تخاف أن نهلك أنا وهذا الطفل جوعاً وعطشاً؟!
رق قلب إبراهيم (ع) وتحير في أمره، ولكنه تذكر أمر الله له، فماذا يفعل وهو إنما ينفذ ماأمره به ربه؟
وأشاح بوجهه عنها.. ولكن هاجر ألحت في السؤال، وظل إبراهيم (ع) منصرفاً عنها يناجي ربه.. ويأتي الجواب، جازماً حاسماً لا تردد فيه ولا تراجع: إن الله هو الذي أمرني بترككم في هذا المكان، وهو لا شك سيكفيكم..
لاذت أم إسماعيل بالصمت، ورضخت هي الأخرى لما أراده الله ثم قالت: إذن لا يضيعُنا..
ورفع إبراهيم (ع) يديه بالدعاء متضرعاً إلى الله وهو يهم بالعودة: {رب إنّي أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم. ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}. ثم قفل عائداً إلى بلاد الشام حيث سارة، وقلبه يهوي إلى مكة.. إلى ولده وفلذة كبده إسماعيل الرضيع، ولا حيلة له إلاّ الدعاء والتضرع.
نفد التمر والماء من بين يدي هاجر... واشتدت حرارة القيظ فعطش الرضيع وطلب الماء ليشرب.. وراح يتلوى من الجوع والعطش فلم تعد هاجر تطيق رؤية طفلها على هذه الحال، فراحت تنظر إليه وعيناها مغرورقتان بالدمع، لا تدري ماذا تفعل.. أتترك وليدها يقضي جوعاً وعطشاً؟ لا، لا، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المصير... فلا بد أنها ستجد الماء.. فالله لن يضيعها وطفلها..
وقامت هاجر في الوادي في موضع السعي أيام الحج، ونادت هناك: هل في الوادي من أنيس، فلم يجبها أحدٌ غير الصدى..

بئر زمزم
انطلقت هاجر تبحث عن المائ في كل اتجاه. وكان الصفا أقرب جبل إليها، فصعدت عليه وراحت تنظر يمنه ويسرة وفي كل ناحية فلاح لها على المروى سرابٌ طنته ماءً، نزلت عن الصفا وراحت تسعى مهرولة في الوادي باتجاه المروى، وفي ظنها أنها ستجد الماء.. ولكم كانت خيبتها حينما لم تجده شيئاً، فوقفت منهكة تنظر وتتفحص فلاح لها سرابٌ في الجهة الأخرى على الصفا وكأنه الماء فعادت مهرولة إلى الصفا ولكنها لم تجد هنالك شيئاً.
وهكذا في كل مرة، حتى فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم تكن تطيق أن يغيب عن ناظريها.. فلما كانت في المرة السابعة، وقد اشتد بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكها المسير، دون أن تعثر على الماء.. نظرت إلى طفلها والدموع تكاد تطفر من عينيها، فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهي تقول: زم زم. ثم أخذت تعب من الماء حتى ارتوت وانحنت على إسماعيل ترضعه.. فإذا بها تسمع صوتاً يقول لها: لا تخافي الضيعة، فإن ها هنا سيكون بيت لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، فقري عيناً، إن الله لا يضيع أهله.

أفئدة من الناس تهوي إليهم
كانت قبيله جرهم، وهي إحدى أكبر القبائل العربية في ذلك الزمان، مثلها مثل بقية القبائل العربية تجوب الأماكن بحثاً عن الماء والعشب، وكانوا يقيمون في عرفات.. مما أتاح لهم أن يروا الطير تحوم فوق وادي مكة، حيث انبجس الماء من بئر زمزم، فعرفوا أن في ذلك الوادي ماءً، وبعثوا منهم من يتحقق من ذلك، فجاؤوا إلى الوادي فرأوا هاجر وإبنها إسماعيل، وشاهدوا البئر المملوءة ماءً فأعجبهم المكان، فاقتربوا من هاجر وسألوها من تكون؟.
قصت هاجر عليهم قصتها، فطلبوا منها أن تأذن لهم في النزول قريباً منها ومن البئر، فقالت لهم: سوف أستأذن لكم زوجي إبراهيم، فإنه يتفقدنا بين الحين والحين، ولما جاء إبراهيم ليرى إلام صار حال زوجته وابنه البكر إسماعيل (ع)، سألته هاجر إن كان يأذن أن ينزل الجرهميون قريباً منها في وادي مكة، فسرَّ بذلك سروراً عظيماً، وقد علم أن دعوته بدأت تتحقق، فأذن لهم.
وجاءت رسل جرهم ليعرفوا الجواب، فأعلمتهم هاجر أن زوجها أذن لهم بالنزول قريباً منها، شرط ألا يكون لهم على الماء سلطان. فعادوا إلى قومهم يخبرونهم، ففرحوا بذلك ووافقوا.
أقام الجرهميون قرب الماء، فأنست بهم أم إسماعيل، وقد منحوا ابنها كثيراً من المواشي.
وشبّ إسماعيل (ع) بين أبناء قبيلة جرهم، كواحد منهم، فتعلم منهم العربية، وبلغ مبلغ الرجال.

الرؤيا الإمتحان
لما بلغ إسماعيل (ع) الثالثة عشرة من عمره، أراد الله سبحانه وتعالى أن يمتحن صدق إيمان أبيه إبراهيم (ع).. فأرى إبراهيم في المنام أنه يأمره بذبح ولده البكر الشاب إسماعيل وأن عليه إن كان صادق الإيمان أن يمتثل لأمر ربه.
وصدق إبراهيم الرؤيا قولاً وسعى إلى تصديقا عملاً وفعلاً، فجاء إلى ولده إسماعيل وقال له: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}.
ولم يكن إسماعيل (ع) ليكذب رؤيا أباه، ويرفض أمر الله مولاه، فقال لأبيه: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين..}.
وهكذا صدق الإثنان: إبراهيم خليل الله، وولده إسماعيل عليهما السلام، صدقا أمر الله دون أن تراودهما الهواجس والشكوك، ولم يترددا في التنفيذ.. وبدأ التنفيذ العملي لذلك التصديق: قاد إبراهيم (ع) إسماعيل إلى المكان الذي أُمِر أن يذبحه فيه، فبعث الله سبحانه إليه ملكاً على صورة شيخ جليل رزين، فقال إبراهيم (ع): يا إبراهيم، ما تريد من هذا الغلام؟ قال (ع): أريد أن أذبحه. قال الشيخ: سبحان الله! غلام لم يعص الله، ولم يأتِ ما يستحق منك ذلك!
قال إبراهيم (ع) إنّ ربي هو الذي أمرني بذلك. فقال الملك الشيخ: ربك ينهاك عن ذلك وإنما أمرك به الشيطان. قال إبراهيم (ع): ويلك إن الذي بلّغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به.
وظل الشيخ يحاور إبراهيم (ع) ويقول له: يا إبراهيم إنك نبي إمام، فلئن أنت ذبحت إبنك، تبعك الناس من بعدك وصاروا يذبحون أولادهم.
لم يلتفت خليل الرحمن إلى كلام الشيخ، بل أقبل يستشير ولده إسماعيل (ع) في الذبح وكيف يكون، فقال إسماعيل: يا أبتاه، غط وجهي بخمار، واربط يدي ورجلي.. فقال إبراهيم (ع): الوثاق مع الذبح!.. لا والله أجمعهما عليك، وأسلما لأمر الله.. وتلّ إبراهيم إسماعيل، وأضجعه على الأرض وأخذ السكين ووضعها على حلقه..ورفع رأسه إلى السماء وجر السكين.. ولكن الله العزيز العليم، لم يكن ليترك إبراهيم يذبح ولده إسماعيل وهو يعلم صدق الأثنين وتسليمهما لأمره، وقد ظهر هذا التصديق جلياً واضحاً: {فلما أسلما وتله للجبين. وناديناه: أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين}.
وأمر الله سبحانه جبرئيل فقلب السكين على قفاها، فلم تفعل شيئاً. ثم رفع إسماعيل (ع) وأتى بكبش كبير أضجعه موضعه، ونجى إسماعيل من الذبح: {وفديناه بذبح عظيم. وتركنا عليه في الآخرين. سلامٌ على إبراهيم. كذلك نجزي المحسنين}.

إسماعيل (ع) وزوجتاه
وتوفيت هاجر أم إسماعيل رضوان الله عليها، فدفنها إسماعيل (ع) في مكة قرب البيت الحرام، في المكان الذي يعرف اليوم بحجر إسماعيل.
ثم تزوج فتاة من جرهم، عاشت معه بعد وفاة أمه هاجر... وجاء إبراهيم (ع) بعد فترة ليتفقد أحوال ابنه وأهله، ولم يكن إسماعيل موجوداً في البيت، فوقف على امرأته دون أن تعرفه، وراح يسألها عن إسماعيل، فقالت: خرج يبتغي لنا.. وسألها عن أحوالهم وكيف يعيشون، فراحت تشكو الضيق وتعلن أنهم في أسوأ حال.. ولم تستضفه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له يغير عتبة بابه.
وتركها إبراهيم (ع) وانصرف راجعاً، فلما جاء إسماعيل (ع) عرف أنّ إباه قد حضر، فسأل زوجته: هل جاءنا أحد اليوم؟ قالت: جاءنا رجل شيخ.. وراحت تصفه له وذكرت له ما سألها عنه، وأخبرته بما قالت هي له، فقال لها إسماعيل (ع) وهل أوصاكِ بشئ؟ قالت: أوصاني أن أقرئك السلام، ويقول لك أن تغيّر عتبة بابك.
فقال إسماعيل (ع): ذلك هو أبي، وقد أمرني أن أطلقك، وطلّقها فلحقت بأهلها، ثم تزوج بأخرى من قبيلة جرهم.
وعاود إبراهيم (ع) زيارته إلى بيت ولده إسماعيل (ع)، وكان إسماعيل خارجاً، فدخل فلم يجده ووجد زوجته، فرحبت به، واستضافته، فنزل وسألها عنه فقالت: خرج يطلب الرزق لنا. قال: كيف أنتم، وكيف تعتاشون؟ قالت: نحن بخير وسعة، والحمد لله، فقال إبراهيم (ع) وما طعامكم وشرابكم؟ قالت: أما طعامنا فاللحم، وأما شرابنا فالماء. فقال (ع): اللهم بارك لهم في اللحم والماء، ثم قال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له يثبت عتبة بابه ويستوص بها خيراً.
ولما رجع إسماعيل إلى بيته. سأل امرأته: هل زاركم أحد اليوم؟ قالت نعم، رجل شيخ حسن الهيئة، سألني عنك، فأخبرته أنّك خرجت في طلب الرزق، وسألني عن حالنا وكيف عيشنا، فأبلغته أننا بخير وسعة من الله.
وسأل إسماعيل (ع) زوجته: هل أوصاك ذلك الشيخ بشئ؟ قالت: نعم، هو يقرئك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك وتستوصي بها خيراً. قال: إنه أبي، وأنت عتبة الباب، وقد أمرني أن أثبتك في بيتي زوجة لي وأستوصي بك خيراً.

إسماعيل (ع) ينقل الحجارة لبناء البيت الحرام
غاب إبراهيم (ع) مدة لم ير خلالها ابنه إسماعيل (ع)، حتى أمره الله سبحانه تعالى، أن يبني له بيتاً في مكة، يكون مثابة للناس.
ولم يعرف إبراهيم أين يبني البيت، وتحير في الأمر، فبعث الله عزوجل جبرائيل، فأشار إليه بالمكان المناسب، وجاءه بالقواعد من الجنة.
قصد إبراهيم (ع) منزل ولده إسماعيل، وأبلغه الأمر الإلهي، فقال إسماعيل (ع): تبنيه وأساعدك.
وبدأ إسماعيل بنقل الأحجار، من ذي طوى وجبل أبي قبيس، وراح إبراهيم (ع) يبني البيت ويدعو مع إسماعيل: {ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم}.
رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بناء البيت، حتى بلغ يوم بنائه تسعة أذرع، وقد جعلا له بابين: شرقياً وغربياً يسمى المستجار. ثم إنّ جبرائيل (ع) دل إبراهيم على موضع الحجر الذي كان الله تعالى قد أنزله على آدم، والذي يروى أنه كان أشد بياضاً من الثلج، وإنما اسود بعدما لمسته أيادي الكفار، فأخذ إبراهيم (ع) الحجر الأسود ذاك، ووضعه في المكان الذي هو فيه اليوم.
وعند انتهاء إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) من بناء بيت الله الحرام، عهد الله إليهما أن يقوما على خدمته: {... وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركّع السجود} وجعله مثابة للناس، وأمرهم باتخاذه مصلى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}.
ثم أمر الله سبحانه خليله إبراهيم (ع) أن يعلو ركناً من أركان البيت، وينادي في الناس: ألا هلم إلى الحج: {وأذَّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير. ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوَّفوا بالبيت العتيق}.

إسماعيل (ع) نبي الله
لما أحس إبراهيم (ع) بقرب وفاته، أوصى ابنه إسماعيل (ع) أن يقوم بخدمة بيت الله الحرام، ويدبر شؤونه، وهكذا كان فبعد وفاة إبراهيم (ع)، قام إسماعيل برعاية البيت والسهر على شؤونه.. ثم إن الله سبحانه وتعالى نبأه وأرسله إلى العماليق وقبائل اليمن. فأخذ ينهاهم عن عبادة الأوثان ودعاهم إلى عبادة الرحمن، الواحد الأحد الفرد الصمد، فآمن بعضهم وكفر آخرون.
وقد ذكر الله سبحانه نبيه إسماعيل (ع) في سبع من سور القرآن المجيد، هي على التوالي: سورة البقرة، سورة آل عمران، سورة النساء، سورة الانعام، سورة إبراهيم، سورة الأنبياء، وسورة ص.
أما إسماعيل الذي ورد ذكره في سورة مريم في قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا. وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}، إسماعيل هذا هو ابن حزقيل، كما أجمع عليه المؤرخون وليس إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) وكان إسماعيل بن حزقيل هذا نبياً أيضاً، وسمي "صادق الوعد" لأنه وعد شخصاً أن ينتظره في مكان معين لايبرحه، فانتظره ولم يغادر المكان، فيما نسى ذلك الشخص موعده وجاء بعد سنين ليجد إسماعيل (ع) لا يزال في انتظاره، يأكل مما أنبته له الله من الأعشاب.
ويروى في قصة إسماعيل هذا، أنّ عابد بني إسرائيل الذي كان يقضي حوائج الناس عند الملك هو الذي وعده، وأنه نسي وعده وهو عند الملك، وأن الملك خرج ذات يوم للتنزه كعادته وقد اصطحب معه أعوانه ومنهم العابد هذا، وبينا هم يتجولون في البرية وقع نظر العابد على إسماعيل، فتقدم إليه وقال له: إنك لا تزال ها هنا يا إسماعيل؟ قال إسماعيل عليه السلام: ألم تقل لي إنتظرني ها هنا؟ فها أنا منتظرك، فتعجب الملك مما رأى وتساءل كيف يبقى إنسان إلى الحول في مكانٍ واحد. فاخبره إسماعيل (ع) أنّ الله قد أظله بغمام، وأجرى له عين ماءٍ، وأنبت له من بقل الأرض ما كان يقتات به.
وكان مع الملك رجل جبارٌ لم يستطع أن يفهم كيف أنّ إسماعيل قضى سنة كاملة في ذلك المكان، فقال للملك: سيدي الملك إنّ هذا الرجل لكذّاب، فلقد مررت أنا بهذه البرية منذ مدة فلم أرَ أحداً هنا، وإنما كان يروح ثم يعود إلى هذا المكان.
وكانت لإسماعيل هذا (ع) كرامة عند الله تعالى، كما لكل نبي من الأنبياء، فقال للجبار: إن كنت تكذب عليَّ فيما تقول، نزع الله صالح ما أعطاك، فلم يلبث أن تناثرت أسنان ذلك الجبار، واعترف بكذبه، ثم توسّل إلى الملك أن يطلب من إسماعيل، أن يسامحه ويدعو الله أن يرد عليه أسنانه، لأنه شيخ كبير السن ولا يمكنه العيش دون أسنان. فطلب الملك إلى إسماعيل أن يدعو ربه أن يعيد للرجل أسنانه، فقال إسماعيل (ع) سأفعل. قال الملك: بل الساعة. قال إسماعيل (ع): إنني أفضّل أن أؤخره لوقت السَّحر، لإن أفضل أوقات الدعاء وقت السحر.
وهكذا، دعا إسماعيل ربه فردّ على الرجل أسنانه.
ويروي أنّ أهل مكة كانوا يفتشون عن إسماعيل لا يعرفون له مكاناً، وهو قائم في المكان الذي وعد عابد بني إسرائيل أن يجده فيه، إلى أن عثر عليه رجل منهم. فقال له: يا نبي الله، لِمَ تركتنا وتخليت عنا، فلقد ضعفنا بعدك وكدنا نهلك؟ قال إسماعيل (ع): لقد وعدت رجلاً أن ألاقيه في هذا المكان، ولن أغادر من هنا قبل أن يعود ونلتقي.
لما سمع الرجل ذلك من إسماعيل، أسرع إلى قومه يخبرهم بأمره وأمر الوعد، فخرجوا يبحثون عن الرجل حتى وجدوه، فقالوا له، مالك أيها الرجل تعد ولا تفي، لقد وعدت إسماعيل أن تلاقيه في مكانه وأخلفت وعدك، فهرع الرجل إلى مكان إسماعيل (ع) وقال له: يانبي الله، إنني نسيت موعدك، ولم أتذكر لو لم يذكّرني هؤلاء.
ويذكر أنّ إسماعيل (ع) قال للرجل: لو لم تأتِ لبقيت منتظراً، ولو طال ذلك إلى قيام الساعة، فأنزل الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد}.

ويروي أن قوم النبي إسماعيل هذا، ضايقوه وآذوه، حتى أنهم، أخذوه فسلخوا جلده، فغضب الله عليهم، وأراد لنبيه أن يقتصّ منهم، فأنزل عليه ملكاً يقول له: قد أُمِرتُ بالسمع والطاعة لك، فمر فيهم بما ترى. فقال إسماعيل (ع): لا، يكون لي بالحسين بن علي (ع) أسوة.
أما إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، فهو أبو العرب، وقد عاش مائة وسبعاً وثلاثين سنة على ما يذكر الرواة، وقد رزق (ع) من الأولاد اثنا عشر ذكراً هم: فائت، قيدار، إربل، ميم، مسمع، دوما، دوام، ميشا، حداد، حيم، قطورا، وماش.
وإلى إسماعيل (ع) يتصل نسب حبيب الله نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) عن طريق ولده قيدار والله أعلم، حيث ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله: "أنا ابن الذبيحين" وهو يعني أباه عبد الله وجده إسماعيل بن إبراهيم عليه وعليهما الصلاة والتسليم.
ويذكر المؤرخون نسب النبي محمد (ص) ومنهم المسعودي الذي قال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن عدنان بن أد بن أود بن ناحور بن يعور بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارخ، إلخ....
من هنا يعلم فضل نبي الله إسماعيل (ع)، حيث أنه كان من صلبه شجرة النبوة المباركة، والأشخاص الذين من أجلهم خلق الله سبحانه الأرض ومن وما عليه، وهم أهل البيت حبيب الله محمد وأولاده من ابنته فاطمة (ع) وزوجها ابن عم النبي علي بن أبي طالب (ع). من هنا إذاً كرامة إسماعيل (ع) عند الله حتى افتداه بذبح عظيم كما مرّ معنا، ليحفظ سبحانه شجرة النبوة المباركة والأئمة الميامين.
ويذكر أن نبي الله إسماعيل (ع) لما أحس بدنو أجله، أوصى إلى أخيه إسحاق بتدبير شؤون البيت الحرام، وتوفي سلام الله عليه، ودفن في المسجد الحرام في المكان الذي فيه الحجر الأسود.
فسلام الله على إسماعيل إنه كان نبياً رسولاً.
وكان من الأخيار وكان من الصابرين.
والحمد لله رب العالمين.

2020-07-28 | 1003 قراءة