النبي ابراهيم (ع)

قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام
هو إبراهيم، بن تارح، بن ناحور، بن ساروغ، بن أرغو، بن فالغ، بن عابر, وهو النبيّ هود  عليه السلام. ورد ذِكْره في القرآن الكريم في مواضع عدّة ، منها: قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ *  أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ *  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ .

وبالتأمّل في هذه المواضع التي ورد فيها ذِكْر النبيّ إبراهيم عليه السلام، يمكن استخلاص قصّته وفق المحطّات التالية:

 

مولد النبيّ إبراهيم عليه السلام ونشأتُه
اختُلِفَ في مكان مولد النبيّ إبراهيم عليه السلام بين بابل وغيرها، ولكنّ المُسلَّم به أنّه ترعرع في بابل، أرض الكلدانيّين التي كان يحكمها النمرود بن كنعان . وقد كانت بابل بيئة شرْك، تعكف على عبادة الأصنام والأوثان من دون الله تعالى، ولكنّ إبراهيم عليه السلام لم يتأثّر في تربيته بهذه البيئة, بفعل قوّة فطرته، وصفاء روحه، وتربيته الإلهيّة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ﴾ ، بل ما برح منذ صغره يمقت هذه العقائد الباطلة والفاسدة، ويواجهها بقوّة يقين وإيمان راسخ بالله تعالى ووحدانيّته: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ .

 

سيرة النبيّ إبراهيم عليه السلام التبليغيّة
تحمّل النبيّ إبراهيم مسؤوليّة الدعوة إلى الله تعالى منذ صغره، فكان يدعو الناس للرجوع إلى ميثاق الفطرة التي خلقهم الله تعالى عليها، من الإيمان بالله تعالى ووحدانيّته، والرجوع إليه تعالى بالمعاد. وقد اختصّه الله تعالى في من اختصّ من أنبيائه ورسله، وجعله من الأنبياء أولي العزم: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ , وبعثه بشريعة خاصّة, هي الحنيفيّة الإبراهيميّة: ﴿قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ , التي نسخت شريعة مَنْ قبله، وتضمّنت دعوة إلى الاعتقاد بأصول الدين، والالتزام بمكارم الأخلاق، وبعض الأحكام والتشريعات: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾ . وقد أُمر الناسُ باتّباع الدين الحنيف: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ , ووصى إبراهيم عليه السلام بنيه به: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ , كما أنَّ جزاء من يتخلّف عنه هو الخسران المبين: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ .

وقد صدر النبيّ إبراهيم عليه السلام في دعوته عن يقين وتصديق وصبر وحلم وشكر وتسليم، ورجوع إلى الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا﴾ , ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ , ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ , ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ , فاتّخذه الله تعالى لنفسه خليلاً: ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً﴾ , واجتباه وهداه إلى صراط مستقيم: ﴿شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ , وأراه ملكوت السماوت والأرض، وجعله من الموقنين: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ , واصطفاه وأدخله برحمته في عباده الصالحين: ﴿وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ , ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ , ﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ , ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ﴾ , وآتاه والطاهرين من ذرّيّته الكتابَ والحكمة والملك: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ , ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ , ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ .

وهاجر النبيّ إبراهيم عليه السلام من موطنه إلى الشام, أرض الكنعانيّين، إلى أرض فلسطين : ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ , ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ , ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ , لنشر رسالته التي كانت رسالة عامّة لكلّ البشريّة آنذاك، وبقي فيها حتّى وافته المنيّة  عن مئة وخمس وسبعين، وقيل: مئة وتسعون سنة، وقيل: مئتا سنة. ودفن في المغارة التي كانت بحبرون الحيثيّ من أرض كنعان، عند امرأته سارة التي كانت في مزرعة عفرون الحيثيّ، وتولّى دفنه إسماعيل وإسحاق  عليهما السلام.

اعتمد النبيّ إبراهيم عليه السلام أسلوباً إلهيّاً في الدعوة إلى الله تعالى قوامه: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالأحسن، وقد تجلّى ذلك في أجلى صوره، من خلال المناظرات التي دارت بينه وبين عمّه آزر، وقومه وملك بابل.

 

مناظرات النبيّ إبراهيم عليه السلام ومواجهاته مع طغاة عصره
حكى القرآن الكريم أربع مناظرات ومواجهات للنبيّ إبراهيم عليه السلام، في دعوته إلى الله تعالى، اعتمد فيها على إثارة الفطرة والعقل والوجدان لدى المخاطَبين بقضايا واضحة وجليّة، يستجيب لها من له أدنى حظّ من الالتفات والنظر، وهي:


1- مناظرته مع آزر:
ناظر النبيّ إبراهيم عليه السلام آزر مناظرتين: الأولى كانت مناظرة له بنحو منفرد، والثانية مناظرة له هو وقومه من عبدة الأصنام والأوثان. واعتمد النبيّ إبراهيم عليه السلام في دعوته آزر أسلوباً حكيماً عاطفيّاً خاصّاً، يحفظ حقوق الرحم بينه وبين عمّه، حيث كشف له من خلاله كشفاً واضحاً لا لبس فيه، عن واقع الأصنام وضعفها وعجزها: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾ , ودعاه إلى عبادة الله تعالى، وحذّره من عاقبة الشرك: ﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾ , ولكنّ آزر كفر بدعوته، ولم يراعِ حقوق الرحم، ولم تتحرّك عاطفته تجاه ابن أخيه، فواجهه بغلظة وقسوة، وهدّده بالقتل: ﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾ , ومع ذلك حافظ إبراهيم عليه السلام على أسلوبه الدعويّ الخاصّ مع عمّه ودعا له بالمغفرة والهداية: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *  وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾ , ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ﴾ . وبعد أنْ أعمى آزر الجهل والتقليد، وأغشى قلبه حبّ الجاه والمكانة الاجتماعيّة بين الناس، بفعل كونه أشهر نحّاتي تماثيل الأصنام في عصره، وله حظوة خاصّة عند النمرود ملك بابل، فأوصد آذان عقله وقلبه أمام دعوة الحقّ، ما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أنْ تبرّأ منه, لعلمه بضلاله، وعدم اهتدائه إلى الحقّ أبداً: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ .

وتجدر الإشارة إلى أنّ آزر ليس والد النبيّ إبراهيم عليه السلام, لأنّ العرب استعملت لفظ الأب في الوالد وغيره من الأعمام والأخوال, لكونهم بمنزلة الآباء. وكذلك ورد في القرآن الكريم نسبة أبوّة إسماعيل عليه السلام إلى يعقوب عليه السلام، مع أنّه واقعاً عمّه: 
﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ، كما أنّ إبراهيم عليه السلام قد تبرّأ في شبابه من آزر، بعدما تبيّن له أنّه ضالّ، لا يهتدي أبداً. وقد حكى القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليه السلام بعد ذلك لوالديه، بعد أنْ أصبح طاعناً في السنّ، وأسكن ذرّيته مكّة: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ , فلا يستقيم أنْ يكون آزر والداً له.

 

2- مناظرته مع عبدة الأصنام والأوثان:
وجّه إبراهيم عليه السلام مجموعة من الأسئلة الإشكاليّة إلى عبدة الأصنام والأوثان من قومه، ومن بينهم آزر، استهدف من خلالها إيقاظهم من غفلتهم، بإزالة الحجب عن فِطَرهم، وإعادة تنشيط عقولهم, ليتسنّى لهم رؤية حقيقة ضعف هذه الأصنام وعجزها: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ , ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ﴾ , ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ , والإذعان بوحدانيّة الله تعالى: ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ , ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ﴾ . وقد بالغ في دعوتهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ ، ولكنّهم لم يستجيبوا له، وكفروا بدعوته: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ , بفعل تعنّتهم وتقليدهم الأعمى للآباء: ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾, ﴿قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ . فما كان من إبراهيم عليه السلام إلّا أنْ واجههم بقوّة: ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ , وأعلن براءته منهم وممّا يعبدون وتولّيه الله تعالى وحده لا شريك له: ﴿قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ *  وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *  إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ , ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ , ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ . ثمّ عزم على تحطيم أصنامهم، متحيّناً الفرصة المؤاتية لذلك: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ , ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *  فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ *  فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ , وقام بتحطيمها، مستثنياً كبير أصنامهم: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنطِقُونَ﴾ , ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾ , ولمّا علم قومه بذلك أحضروه: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ , وسألوه عن من فعل ذلك بآلهتهم: ﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ , فطلب منهم أن يسألوا كبير أصنامهم: ﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ﴾ , ليلقي عليهم الحجّة البالغة من جديد، في عجز هذه الأصنام والأوثان وضعفها، وعدم لياقتها للعبادة، فبُهتوا واعترفوا بعجز آلهتهم: ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ﴾ ، ولكنّ جهلهم وتعنّتهم أصمّ عقولهم، وأعمى قلوبهم، وقادهم إلى الكفر والجحود، فوبّخهم إبراهيم عليه السلام على جهلهم وجحودهم: ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ *  أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ , ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ , فلم يجدوا محيصاً أمام قوّة حججه إلّا أن يسلّموه إلى النمرود, ملك بابل, ليعاقبه بقتله حرقاً, جزاءً على ما فعل بآلهتهم: ﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ﴾ , ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾ , ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ , فأنجاه الله تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ , ﴿فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ , وردّ كيدهم، فباءوا بالخسران: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ ، ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ﴾ , فتركهم النبيّ إبراهيم عليه السلام بعد أنْ أنبأهم بمصيرهم: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾ , وهاجر مع ابن أخيه لوط عليه السلام إلى الشام، إلى أرض فلسطين: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ , ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ .

 

3 - مناظرته مع عبدة النجوم والكواكب:
اتّبع إبراهيم عليه السلام أسلوباً حكيماً خاصّاً في دعوته عبدةَ النجوم والكواكب، حيث سلَّم معهم جدلاً بمدّعاهم ربوبيّة الكواكب والنجوم، ثمّ أخذ شيئاً فشيئاً يكشف لهم عن عجزها وضعفها، وعدم لياقتها للعبادة, ليوصلهم إلى أنّ الله وحده هو أهل للعبادة دون ما سواه: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ*  فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ .

 

4- مناظرته مع ملك بابل:
حكى القرآن الكريم مناظرة النبيّ إبراهيم عليه السلام مع النمرود, ملك بابل، المدّعي للربوبيّة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ﴾ , حيث بيّن له إبراهيم عليه السلام ربوبيّة الله تعالى المطلقة، من خلال بيان بعض مصاديقها، كالإحياء والإماتة، تأكيداً لعدم انفكاك مراتب التوحيد في الخالقيّة والربوبيّة والعبوديّة: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ , فأجابه النمرود بجواب، استخفّ به عقول الحاضرين من قومه، بقدرته على الإحياء والإماتة، بأنْ أتى برجلين محكومين بالقتل، فقتل أحدهما، وأطلق سراح الآخر: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ . 

ولذلك لم يجادل إبراهيم عليه السلام النمرود في ما قدّم من زيف وخداع, لاتّضاح الأمر على من به أدنى حظّ من العقل، ولكنّه لجأ إلى تقديم حجّة أخرى، أجلى في باب إثبات ربوبيّة الله تعالى، وإبطال دعوى النمرود، فذكر ربوبيّته تعالى في تسيير فلك الشمس، وأثره في أمكنة الأرض، بلحاظ الشروق والغروب، وطلب من النمرود الإتيان بالشمس من المغرب، إذا كان محقّاً في دعواه الربوبيّة: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ , فبُهت النمرود، ولم يستطع أن يواجه النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ , ومع ذلك بقي النمرود وقومه على كفرهم وجحودهم: ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ , فما كان من إبراهيم عليه السلام إلّا أنْ اعتزلهم، وعزم على تركهم والهجرة إلى فلسطين، تلك الأرض المباركة التي هاجر إليها مع ابن أخيه لوط عليه السلام، وظلّ يدعو فيها برسالته إلى مرحلة متأخّرة من عمره.

 

5 - طلب رؤية إحياء الموتى:
حكى القرآن الكريم طلب النبيّ إبراهيم عليه السلام من الله تعالى أن يمنّ عليه بإراءَته إحياء الموتى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾ , فيرفع درجة يقينه من مرتبة العلم اليقينيّ إلى مرتبة المعاينة اليقينيّة: ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ , فاستجاب الله تعالى له ذلك, لاستعداد إبراهيم عليه السلام لنيل هذه المرتبة في نفسه. وقد أمره الله تعالى أن يحضر أربعة طيور مختلفة الأجناس، وأن يقطّعها ويفرّقها على أجزاء، ثمّ يضع على كلّ جبل جزءاً من الطيور المقطّعة، ثمّ يدعوها، فتأتيه مجتمعة قد دبّت فيها الحياة من جديد: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ .

 

ابتلاءات النبيّ إبراهيم عليه السلام
ابتلى الله تعالى النبيّ إبراهيم عليه السلام بابتلاءات عدّة، وقد صرّح القرآن الكريم جملةً بوقوع هذه الابتلاءات: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ . ويمكن استنتاج مصاديقها من خلال بعض المواقف التي تعرّض لها القرآن الكريم من محن واختبارات، حصلت مع إبراهيم عليه السلام، وامتدحه القرآن الكريم على صبره ونجاحه فيها. ومن هذه الابتلاءات:
 

1- إحراقه عليه السلام بالنار:
بعد أن حطّم إبراهيم عليه السلام الأصنام التي كان يعبدها قومه، وبعد فشل النمرود في إبطال حججه عليه السلام، لم يجدوا محيصاً إلّا قتله عليه السلام، فبدا للنمرود أنْ يقتله حرقاً، وقد أعدّ لذلك العدّة، فأمر بإيقاد نارٍ عظيمة، وجمع الناس ليشهدوا إحراق إبراهيم عليه السلام، وأمر بإلقائه بواسطة المنجنيق في النار: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ , ولكنّ إبراهيم عليه السلام بصبره في جنب الله تعالى، وتسليمه له، نجا من الاحتراق بالنار: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ , ونجح في هذا الابتلاء الصعب، فكان هذا المشهد المهيب حجّة أخرى بالغة على النمرود وقومه بصدق دعوة النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ .

 

2 - هجرته من وطنه:
بعد أنْ علم إبراهيم عليه السلام عدم اهتداء قومه، وإصرارهم على أذيّته وقتله، هاجر من وطنه، صابراً محتسباً متوكّلاً على الله تعالى في أمره، ليحطّ في دار غربة في الشام, في أرض فلسطين، بعد أنْ رفضه قومه: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ , ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ .

 

3 - إسكان زوجه وابنه إسماعيل مكّةَ:
بعد أنْ تزوّج إبراهيم عليه السلام سارة، لم يرزق منها أولاداً مدّة طويلة من الزمن، حتّى بلغ مرحلة متقدّمة من العمر، ثمّ تزوّج بعد ذلك هاجر، وكانت جارية لسارة، فدعا الله تعالى أن يرزقه ذرّيّة من الصالحين، فرُزِق منها بإسماعيل عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ* فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ ، ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ﴾ , ثمّ أتاه الوحي الإلهيّ بأنْ يسافر من فلسطين مع هاجر وابنه إسماعيل، وأن يسكنهما في مكّة - وكانت آنذاك وادياً لا زرع فيه ولا ماء - ثمّ يعود على الفور إلى فلسطين. وقد امتثل النبيّ إبراهيم عليه السلام لهذا الأمر وسلّم لله تعالى فيه، ودعاه أن يتولّى أمر زوجه وابنه: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾ , ثمّ غاب عنهما، وكان يتردّد إليهما بين الحين والآخر.

 

4 - الأمر بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام:
بعد أنْ ترك إبراهيم عليه السلام زوجه هاجر، وابنه إسماعيل عليه السلام، بعد عودته إلى مكّة، ورفعه بناء البيت الحرام مع ابنه إسماعيل عليه السلام، الذي بلغ حينها مبلغاً من العمر يسعى فيه لطلب حوائج الحياة، أتاه الوحي الإلهيّ في منامه، وأمره بأنْ يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ، فسلّم إبراهيم عليه السلام لأمر الله تعالى، وعزم على تنفيذه: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ*  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ , فجاءه الوحي الإلهيّ، وأمره بالتوقّف عن ذلك: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾,  وامتدحه على تسليمه وإخلاصه لله تعالى، وأمره بذبح كبش فداءً لابنه إسماعيل عليه السلام: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ .

وتجدر الإشارة إلى أنّ إسحاق عليه السلام ليس هو الذبيح، كما يزعم اليهود, لأنّه لم يكن مولوداً بعد، على ما يشهد به سياق ما ورد في القرآن من قصّة البشارة بإسماعيل عليه السلام، ثمّ قصّة الذبح، ثمّ البشارة بإسحاق عليه السلام: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ*   فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ  * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ  * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ , وبذلك تشهد الروايات المأثورة .

 

بناء البيت الحرام وتشريع الحجّ
بعد أنْ عاد إبراهيم عليه السلام إلى مكّة مجدّداً في اختبار ذبح إسماعيل عليه السلام، وبعد نجاحه في هذا الامتحان، أمره الله تعالى برفع بناء البيت الحرام، فقام عليه السلام بامتثال الأمر الإلهيّ، وعاونه ابنه إسماعيل عليه السلام في ذلك: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ , وَإِذ ، وكانا يدعوان الله تعالى أن يتقبّل أعمالهما: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ ,? وأن يرفع مقامهما إلى التسليم المطلق له تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ﴾ , وأنْ يجعل هذا المقام سارياً في ذريّة إبراهيم عليه السلام: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾ , وأنْ يتولّاهما برحمته، ويسدّدهما في أفعالهما العباديّة، ويريهما حقيقتها: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ , وأنْ يبعث من هذه الذرّيّة رسولاً يتكفّل بتعليم الأمّة وتربيتها، وإخراجها من الظلمات إلى النور: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ . ومع انتهاء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل عليه السلام من رفع بناء البيت الحرام، أمره الله تعالى بتطهير البيت الحرام، وتهيئته للوافدين إليه: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ , ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ , وبأنْ يُعلِم بعد ذلك الناسَ من جميع الأقطار بتشريع الحجّ، ويدعوهم إلى تأدية مناسكه: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ *  لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ , فامتثل عليه السلام لأمره تعالى، وطلب منه تهيئة بيئة جذب الناس لسماع دعوة الحقّ، بأنْ يجعل مكّة مكاناً آمناً، ومزدهراً اقتصاديّاً، وخصباً، ينتفع منه الناس جميعاً، وينجذبون إليه من كلّ مكان بعيد: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ , ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ , فاستجاب الله تعالى له دعوته: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ , ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ , على أن يُحَاسِب مَنْ كفر من الناس على كفره: ﴿قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ .

 

إمامة النبيّ إبراهيم عليه السلام
بعد أنْ نجح إبراهيم عليه السلام في اجتياز هذه الابتلاءات والاختبارات، وبعد إتمامه الأوامر الإلهيّة، استحقّ نيل مقام الإمامة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ . ومن عظم هذا المقام، سأله النبيّ إبراهيم عليه السلام في ذرّيّته: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ , فأجابه الوحي الإلهيّ بوقوعه في ذرّيّته، ولكنّه عهد إلهيّ خاصّ بالمطهَّرين منهم، لا يناله من صدر منه ظلمٌ في حياته: ﴿قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ .

 

ولادة إسحاق عليه السلام لإبراهيم عليه السلام
في آخر عمر النبيّ إبراهيم عليه السلام، وهو في أرض فلسطين، أتت الملائكة في صور رجال، فاستضافهم، وهو لا يعرف أنّهم ملائكة ربّ العالمين: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا﴾ , ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ﴾ , ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ ، وأمر زوجه سارة بإكرام الضيوف، وإعداد طعام لهم، فأتاهم بعجل سمين مشويّ: ﴿فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ , ﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ , فلمّا رأى أنّهم لا يأكلون منه، اضطرب من حالهم، واستوجس من أمرهم: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ , ﴿قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ﴾ , ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ , فبادروا إلى طمأنته بأنّهم رُسُل الله تعالى إلى قوم لوط عليه السلام، ويحملون له ولزوجه البشرى بأنّهما سيرزقان بغلام عليم، وسيكون له ذرّيّة: ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ , ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ , ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾ , وكانت امرأته واقفة بالباب: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ﴾ , فاستعجبا من رزقهما بالولد على كبر سنّهما، وهذا أمر يكاد يكون غير واقع بحسب المعهود من الأسباب: ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ , ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ , ﴿فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ , فأجابتهما الملائكة بأنّ الله تعالى قد أذن لهما بهذا الرزق: ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾ , ﴿قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾ , ﴿قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ , ففرحا، واستبشرا، وشكرا الله تعالى عليه: ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾ , ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ . وبعد أنْ ذهب عن إبراهيم عليه السلام الخوف والوجل، وسمع بشرى الملائكة برزقه بإسحاق، ومن بعده بيعقوب، سألهم عن أمر الله تعالى في قوم النبيّ لوط عليه السلام: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ , ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾ , فأجابوه بأنّ الله تعالى أرسلهم ليُنزِل بهم عذاباً غير مردود: ﴿وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ﴾ , ﴿قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا﴾ , ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾ , ﴿قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ , فسألهم النبيّ إبراهيم عليه السلام عن مصير النبيّ لوط عليه السلام: ﴿قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا﴾ , فأجابوه بأنّ الله منجّيه وأهله، إلّا امرأته: ﴿لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ , ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾ , ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ .
 

دروس وعبر من قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام
بالتأمّل في ما ورد في القرآن الكريم من قصّة النبيّ إبراهيم عليه السلام، يمكن استخلاص جملة من الدروس والعبر والسنن، منها:
- وحدة الدين عند الله تعالى: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾, ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾.

- الرسل عليهم السلام حجج الله تعالى على خلقه: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾.

- عين اليقين أعلى مرتبة من علم اليقين: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾، ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾.

- خيرات البيت الحرام وبركاته للمؤمنين خاصّة: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾.

- البيت الحرام مكان للعبادة والتقرّب إلى الله تعالى، وليس محطّة للّهو والتسلية: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.

- على الإنسان أن يصبر على الابتلاء، ويسلّم لأمر الله تعالى, حتّى يتهيّىأ ويصبح مستعدّاً لتلقّي الفيض الإلهيّ: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *  وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ *  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾.

- ارتكاب الظلم يصيّر الإنسان محروماً من نيل الفيض الإلهيّ: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾.

- على المجتمع التوحيديّ الالتزام بنهج التواصي بالحقّ: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.

- تعظيم شعائر الله تعالى دليلٌ على تقوى القلب وصلاحه: ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ  ... ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾.

- التوفيق لامتثال الأوامر الإلهيّة نعمة تستحقّ الشكر: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.

- الأمن ورغد العيش شرطان أساسيّان لتهيئة البيئة المناسبة لسماع دعوة الحقّ: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾, ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً﴾. 

- على الإنسان الرساليّ أن يحمل مسؤوليّة الإعداد والتمهيد لمَن يأتي بعده من أجيال، ويُسهم في صناعة مستقبلهم: ﴿  رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾.

- على الداعي الانطلاق في دعوته من القضايا والعقائد الواهمة المسلَّمة لدى المدعوّين، والعمل على دحضها وإزالتها بحكمة وبصيرة، ثمّ توجيههم إلى العقيدة الحقّة: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.

- على الداعي أن تكون دعوته نابعة من قوّة موقف وإيمان راسخ: ﴿وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾, ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾.

- على الداعي أن يصبر في حكمه على المدعوّين وإنْ أبطأوا في الاستجابة لدعوته، وأنْ يدعو لهم بالتبصّر والهداية: ﴿قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا﴾.

- على الداعي اتّباع أسلوب النصح في الدعوة إلى الله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا﴾.

- الداعي إلى الله تعالى لا يوادع، ولا يساوم في دعوته: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.

- على الإنسان أن لا ييأس من رحمة الله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾, ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾.

-إكرام الضيف من شِيَم الرجال: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾.

- على الإنسان أن يتوكّل على الله تعالى في كلّ أمر: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء﴾.

- ملازمة نهج الدعاء بالصلاح والخير للنفس وللآخرين: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء*   رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾.

- الله تعالى يدافع عن عباده المخلصين، وينصرهم وينجّيهم: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ *  قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ *  وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾.

- على الإنسان أن يتذكّر دوماً نعم الله تعالى وعطاياه، ويقرّ بها، ويشكره عليها: ﴿إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ *  وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ  * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾. 

- سلامة قلب الإنسان وارتباطه بالله تعالى سبيل فلاحه وأمنه من الخسران: ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.

- لا مُقَام للمؤمنين في بيئة قُضِيَ على أهلها بالكفر والضلال: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
 
- الارتباط النسبيّ أو السببيّ بالأنبياء عليهم السلام وحده لا يعصم الإنسان من العذاب فيما لو كان من الكافرين: ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ﴾.

- تحرّي عقلانيّة الإنسان في اتّباعه للدين الحنيف أو إعراضه عنه: ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾.
- الانبهار بالملك والسلطة يعمي قلب الإنسان عن الحقيقة، ويدفعه للمجادلة من غير حقّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

- الروابط الدنيويّة الباطلة لا تنفكّ تزول وتبطل بزوال الدنيا، فلا يبقى لأهلها يوم القيامة إلّا وزرها والخصام: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ﴾.
 


الأفكار الرئيسة
1- بعث الله تعالى نبيّه إبراهيم عليه السلام بالرسالة، وجعله من أنبياء أولي العزم، وبعثه بشريعة خاصّة هي الحنيفيّة الإبراهيميّة.

2- قام النبيّ إبراهيم عليه السلام بأربع مناظرات ومواجهات مع عمّه آزر ومع عبدة الأصنام والأوثان والكواكب والنجوم من قومه، ومع النمرود ملك بابل، اعتمد فيها على إثارة الفطرة والعقل والوجدان لدى المخاطَبين بقضايا واضحة وجليّة يستجيب لها من له أدنى حظّ من الالتفات والنظر.

3- بعد أنْ أعرض قوم النبيّ إبراهيم عليه السلام عن دعوته، وحاولوا قتله، هاجر من موطنه إلى الشام, أرض الكنعانيّين, إلى أرض فلسطين, لنشر رسالته التي كانت رسالة عامّة لكلّ البشريّة آنذاك، وبقي فيها حتّى وافته المنيّة.

4- ابتلى الله تعالى نبيّه إبراهيم عليه السلام بابتلاءات عدّة، وبعد نجاحه في اجتياز هذه الابتلاءات والاختبارات، وإتمامه الأوامر الإلهيّة، استحقّ نيل مقام الإمامة.

5- أمر الله تعالى نبيّه إبراهيم عليه السلام برفع بناء البيت الحرام، فقام عليه السلام بامتثال الأمر الإلهيّ، وعاونه ابنه إسماعيل عليه السلام في ذلك.

 

المصدر: كتاب قصص الأنبياء عليهم السلام في القرآن الكريم
 

2020-07-28 | 965 قراءة