الأخبار المستفيضة عن الأمم الماضية والتي يسترق لها البيان القصصي بأسلوب وسرد رائع والمنطوي على خبايا الأمم الماضية ووقائعهم, والذي فيه الكثير من المفارقات الرائعة ذو الدلالات الإيحائية ذات الموعظة الحسنة للعباد جميعا دون استثناء, نراه جلياً في كتاب الله العزيز القرآن الكريم .
ومن بين أبرز تلك المفارقات هي بعثة الأنبياء للأقوام, فجميع الأنبياء (عليهم السلام) والرسل هم أصحاب رسالة سماوية للعباد, والغاية من بعثتهم إنما هي الهداية, ولكن تبقى المفارقة في اختلاف الأقوام والحقبة الزمنية بينهم, فبعثة نبي الله هود (عليه السلام) إلى قومه والتي أظهرتها الآية الكريمة من قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) , هي نفس الغاية من إرسال الباري لنبي الله صالح (عليه السلام) إلى قومه ثمود, أي أن الغاية واحدة في الدعوة الرسالية المتمثلة بالتوحيد, ولكن تبقى المفارقة في الأنبياء والرسل ونوع الأوامر الإلهية الصادرة لكل منهما كما ظهر في قوله: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وتأتي المفارقة وفق المدلول اللغوي على أنها اسم مفعول من (فارق) على وزن فاعل, ويأتي من مصدره الصريح على وزنين مفاعله ومفارقة وفعال أي (فراق), وهو خلاف الجمع, والقران فيه الكثير منه وفيه روعة وتصوير يسترق إليها الأنظار قبل المسامع, منها ماجاء في مناجاة نبي الله موسى (عليه السلام) لربه للخلاص من طاغية عصره فرعون, عندما توجه إلى مدين للخلاص منه والذي ذكرته الآية الكريمة من قوله تعالى: (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) , فهنا تبين أنه عندما وصل إلى مدين استبصر بئرا يزدحم حوله طائفة من الناس لرعاية أغنامهم, فتعجب من فتاتين وقفتا بالقرب من البئر ولم تقرباه, وسط هذا الضجيج, ولم تبديا الاستعداد إلى مزاحمة الآخرين طلبا للماء فتعجب من موقفهما وقرر أن يسقي غنمهما, ثم أخذ جانب الظل وبعد استجارته للدعاء والتضرع لله تعالى حيث كان جائعا, عادت إليه إحداهما باستحياء كما في قوله تعالى: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) , فالآية تبين أن الباري استجاب ابتهال النبي موسى (عليه السلام) ودعائه, بدعوة أبيهما شعيب (عليه السلام) له لتناول الطعام والتعارف, ومن ثم إعجاب أبيهم شعيب بالنبي موسى (عليه السلام) وتزويجه إحدى ابنتيه, فتبدلت حياة موسى (عليه السلام) من الشاقة إلى النعيم في كنف عائلة النبي شعيب (عليه السلام), وهنا الاستجابة واحدة مع دعاء نبي الله سليمان (عليه السلام) والذي أظهرته الآية الكريمة من قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) , إلا ان المفارقة في طلب سليمان (عليه السلام) في دعائه لله وهي وهبه الملك الواسع الذي لم يبلغه احد من البشر قاطبة في زمنه, كما بينته الاية الكريمة من قوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) , وفعلا تم استجاب دعائه من قبل الباري كما حصل مع النبي موسى(عليه السلام).
وهناك العديد من المفارقات والاختلاف في القران, منها ذكر مواطن الوحشة الثلاث, والتي تمر على بني آدم قاطبة بمفارقات ثلاث في التوقيت, سرها أزلي عند الباري والتي بينها إمامنا الرضا (عليه السلام) في تفسيره لسورة مريم قائلا: (إن أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يلد فيخرج من بطن أمه فيرى الدنيا، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها، ويوم يبعث فيرى أحكاما لم يرها في دار الدنيا، وقد سلم الله على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمن روعته فقال: ( وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) , وقد سلم عيسى بن مريم (عليها السلام) على نفسه في هذه الثلاثة المواطن فقال: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) , وهناك مفارقة أخرى صريحة في سورة آل عمران أي تحديدا في قوله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) , وبين ما جاء في سورة الحديد في قوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) , فسارعوا وسابقوا كلاهما واحد الا ان الاختلاف في المدلول اللغوي فالمسارعة تعني الاشتداد في السّرعة، وهي ممدوحة في الخيرات مذمومة في الشرور, أما المسابقة: فتعني المغالبة في السبق والوصول إلى الغاية المرجوة.
المصادر:
- سورة الشعراء: الآيات 123- 124- 125- 126.
- سورة الأعراف :الآية 73 .
- سورة القصص : الآية 22 .
- سورة القصص : الآية 25.