المحكم والمتشابه

1- معنى المحكم:
أ- المعنى اللغوي:
الحاء والكاف والميم أصل واحد, وهو: "المنع" . و"المحكم": ما لا يعرض فيه شبهة من حيث اللفظ، ولا من حيث المعنى . وعليه، فالمحكم هو ما كان ذا دلالة واضحة، بحيث لا يحتمل وجوهاً من المعاني.

ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمحكم تحديدات عدّة، منها: ما أنبأ لفظه عن معناه من غير أن ينضم إليه أمر لفظ يبيّن معناه, سواء أكان اللفظ لغوياً أم عرفياً، ولا يحتاج إلى ضرب من ضروب التأويل . والمحكم ما استقلّ بنفسه . والمحكمات هي آيات واضحة المُراد، ولا تشتبه بالمعنى غير المُراد، ويجب الإيمان بهذا النوع من الآيات والعمل بها... والآيات المحكمات مشتملة على أمّهات المطالب، ومطالب بقية الآيات متفرّعة ومترتّبة عليها ، وغيرها من التحديدات .


 
2- معنى المتشابه:
أ- المعنى اللغوي: "الشين والباء والهاء أصل واحد يدلّ على تشابه الشيء وتشاكله لوناً ووصفاً... والمشبّهات من الأمور المشكلات، واشتبه الأمران إذا أشكلا" . و"الْمُتَشَابِه من القرآن: ما أُشكِلَ تفسيره لمشابهته بغيره, 
إمّا من حيث اللَّفظ، وإمّا من حيث المعنى" .

ب- المعنى الاصطلاحي: ذُكِرَت للمتشابه تحديدات عدّة، منها: "ما كان المراد به لا يُعرَف بظاهره، بل يحتاج إلى دليل, وهو ما كان محتملاً لأمور كثيرة أو أمرين، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً, فإنّه من باب المتشابه" . و"المتشابه ما لا يستقلّ بنفسه إلا بردّه إلى غيره" . و"الآيات المتشابهة هي آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها... والآيات المتشابهة منجهة المدلول والمُراد ترجع للآيات المحكمة، وبمعرفة المحكمات يُعرَف معناها الواقعي... فالمتشابه هو الآية التي لا استقلال لها في إفادة مدلولها، ويظهر بواسطة الردّ إلى المحكمات، لا أنّه ما لا سبيل إلى فهم مدلوله" ، وغيرها من التحديدات .

 

3- تحقيق وجود آيات متشابهات:
وقع الاختلاف في أصل وجود آيات متشابهات في القرآن ، ويمكن الكلام فيه بالتالي:
 
أ- عدم وجود المتشابهات في القرآن: إنّ القرآن كتاب هداية عامّة لكلّ الناس:
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ ، ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ , فلا وجود فيه لآيٍ متشابهة بالذات. وأمّا التعبير بالتشابه في آيِ القرآن, فهو بمعنى التشابه بالنسبة إلى أُولئك الزائغين الذين يحاولون تحريف الكلِم 
عن مواضعه.

والواقع: أنّ اشتمال الآية على ذِكْر التفصيل بعد الإحكام دليل على أنّ المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول, وهي كونه واحداً لم يطرأ عليه التجزّي والتبعّض بعد, بتكثّر الآيات, فهو إتقانه قبل وجود التبعّض. 

فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام والإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر, من جهة امتناعها عن التشابه في المراد. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فلمّا كان قوله تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ مشتملاً على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي: المحكم والمتشابه، علمنا به أنّ المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾. وكذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وُصِفَ به جميع الكتاب في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾   .

ب- وجود المتشابهات في القرآن: يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل على آيات محكَمات، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، وقد تقدّم وجه دلالتها على وجود المحكم والمتشابه من الآيات.
 
وادّعى البعض أنّ جميع آي القرآن متشابهات، مستدلاً بقوله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا﴾ .

والواقع: أنّ المراد بالتشابه في الآية السابقة هو كون آيات الكتاب ذات نسق واحد, من حيث جزالة النظم، وإتقان 
الأسلوب، وبيان الحقائق، والحكم، والهداية إلى صريح الحقّ, كما تدلّ عليه القيود المأخوذة في الآية. فهذا التشابه 
وصف لجميع الكتاب، وأمّا التشابه المذكور في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فمقابلته لقوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، وذِكْر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل, كل ذلك يدلّ على أنّ المُراد بالتشابه: كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرّد استماعها، بل يتردّد بين معنى ومعنى, حتى يرجع إلى محكمات الكتاب, فتُعيّن هي معناها وتبيّنها 
بياناً, فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، والآية المحكمة محكمة بنفسها .

 

4- ضرورة معرفة المحكم والمتشابه:
إنّ لمعرفة المحكم والمتشابه بالغ الأثر في فهم القرآن الكريم، حيث إنّ القرآن يشتمل على آيات محكمات تحوي أصول المعارف القرآنية المسلّمة والواضحة، وأُخَر متشابهات تتعيّن وتتّضح معانيها بإرجاعها إلى تلك الأصول. وهذا الإرجاع يحتاج إلى دراية وعلم خاصّ بالمحكم والمتشابه:

عن الإمام الصادق عليه السلام: "قال الله سبحانه: ﴿...وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ...﴾ , وذلك أنّهم ضربوا بعض القرآن ببعض، واحتجوا بالمنسوخ، وهم يظنون أنّه الناسخ، واحتجّوا بالمتشابه وهم يرون أنّه المحكم... 
 
ولم يعرفوا موارده ومصادره, إذ لم يأخذوه عن أهله, فضلوا وأضلوا. واعلموا رحمكم الله: أنّه من لم يعرف من كتاب الله عزّ وجلّ الناسخ من المنسوخ، والخاصّ من العامّ، والمحكم من المتشابه... فليس بعالم بالقرآن، ولا هو من أهله..." .

وعن الإمام الرضا عليه السلام: "من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه, هُدِيَ إلى صراط مستقيم... إنّ في أخبارنا متشابهاً, كمتشابه القرآن، ومحكماً, كمحكم القرآن, فردّوا متشابهها إلى محكمها، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها, فتضلّوا" .

 

5- أسباب وجود المتشابهات في القرآن؟

إنّ لوجود المتشابهات في القرآن أسباب عدّة ، منها:
أ- مجاراة القرآن في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة، لم تكن موضوعة إلا لمعانٍ محسوسة أو قريبة منها، ومن ثمَّ لم تكن تفي بتمام المقصود، فوقع التشابه فيها وخفيَ وجه المطلوب على الناس، إلاّ على الراسخين في العلم منهم.

ب- القرآن حمّال ذو وجوه, لاعتماده في أكثر تعابيره البلاغية على أنواع من المجاز والاستعارة والتشبيه. قال الإمام علي عليه السلام لابن عبّاس ـ لمّا بعَثه للاحتجاج على الخوارج: "لا تخاصمهم بالقرآن, فإنّ القرآن حمّال ذووجوه، 
تقول ويقولون، ولكن حاجِجهم بالسُنَّة فإنَّهم لن يجدوا عنها محيصاً".

ج- إنّ البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقّة الإلهية, لأنّ البيان نزل في سطح هذه الآيات إلى مستوى الأفهام العامّة التي لا تدرك إلا الحسيّات، ولا تنال المعاني الكلّيّة إلا في قالب الجسمانيّات، ولما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلّيّة 
 
المجرّدة من عوارض الأجسام أحد محذورين، فإنّ الأفهام في تلقّيها المعارف إن جمدت في مرحلة الحسّ انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثّلة، وفيه بطلان الحقائق وفوت المقاصد.

 

6- نماذج من آيات محكمات وأُخَر متشابهات :

أ- آيات الصفات الإلهية:
- نماذج من آيات الصفات المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي فيها شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ...﴾  ، ﴿...ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ...﴾  ، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء...﴾  ، ﴿...يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...﴾  ، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ، ﴿وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ ...

- نماذج من آيات الصفات المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتزيل عن الذهن شبهة التجسيم، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ ، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ...
 
ب- آيات الأفعال الإلهيّة:
- نماذج من آيات الأفعال المتشابهات: وهي بظهورها الأوّلي تفيد الجبر وعدم الاختيار، وتنسب هدى الإنسان أو ضلاله إلى الله، وتعتبر مشيئة الله منشأ الإيمان والكفر والسعادة والشقاء، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿...فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾  ،﴿...يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً...﴾  ، ﴿...فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء...﴾  ، ﴿...مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ...﴾  ، ﴿وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ...﴾ ...

- نماذج من آيات الأفعال المحكمات: وهي ترفع الظهور الأوّلي للآيات المتشابهات، وتبيّن مقصودها الحقيقي، وتدلّ بكلّ وضوح على أنّ العناية الربّانية تأخذ بيد المؤهَّل لتلقّي الفيض والرحمة الإلهية، ويحرم منها المعرضون عن ذِكْر الله، وأنّ الإنسان موجود مختار، وسعادته وشقاؤه رهن إرادته، ومن هذه الآيات: قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ﴾ ، ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ...﴾ , ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ...﴾  ، ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾  ، ﴿...لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ...﴾  ، ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ
 
يُرَى﴾ ، ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...﴾  ، ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ...﴾  ، ﴿...إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾ ، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا...﴾ ...

 


 الأفكار الرئيسة:

1- المحكمات هي: آيات واضحة المُراد، لا تشتبه بالمعنى غير المُراد، ويجب الإيمان بهذا النوع من الآيات والعمل بها. والمتشابهات هي: آيات ظاهرها ليس مُراداً، ومُرادها الواقعي الذي هو تأويلها لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، ويجب الإيمان بها، والتوقّف عن اتّباعها، والامتناع عن العمل بها.

2-  يشتمل القرآن الكريم على آيات متشابهات, كما هو مشتمل على آيات محكَمات.

3- القرآن يشتمل على آيات محكمات تحوي أصول المعارف القرآنية، وأُخَر متشابهات تتعيّن وتتّضح معانيها بإرجاعها إلى تلك الأصول. وهذا الإرجاع يحتاج إلى دراية وعلم خاصّ بالمحكم والمتشابه.

4- إنّ لوجود المتشابهات في القرآن أسباب عدّة، منها: مجاراة القرآن في إلقاء معارفه العالية لألفاظ وأساليب دارجة، القرآن حمّال ذو وجوه، البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقّة الإلهية.

5- نماذج من آيات محكمات وأُخَر متشابهات: آيات الصفات الإلهية، آيات الأفعال الإلهيّة.
 


 

مطالعة


النسبة بين المتشابه والمبْهَم والفرق بين عواملهما 
النسبة بين المتشابه والمبهم هي العموم المطلق, لأنّ كلّ متشابه مُبهَم في معناه، وليس كلّ مبهَم متشابهاً، فقوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾  هو من المتشابهات، وقد عَلَته طبقة من الإبهام أيضاً. وأمّا التشابه فمِن جهة نِسبة الإضلال إليه سُبحانه، وأمّا الإبهام فمِن جهة كيفية حصول ذلك الانشراح والضِيق، ولا سيّما وجه الشبَه في قوله: ﴿كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾، كيف أنّ الضالّ يُشبه مَن يحاول الصعود في أعماق السماء؟. وقد لا تكون الآية المبهمة من المتشابهات، فهي إلى التفسير أحوَج منها إلى التأويل, كقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء﴾ ، فالآية بأمسّ حاجة إلى تفسير يجيب على عِدة أسئلة يبعثها إبهام في ظاهر الآية: كيف تحقّق هذا التعليم الَّذي باهى الله به ملائكته؟ وما هي الأسماء الَّتي يعود عليها ضمير التأنيث تارةً وضمير الجمْع المذكَّر أخرى؟ وكيف استسلمت الملائكة لهذه المباهاة واعترفت بعجْزها وقصورها مع الأبد؟.

ويعود الفرْق بين تشابه الآية وإبهامها إلى ما بين عوامل الأمرَين من اختلاف، حيث مِن أهمّ عوامل التشابه هو: دقَّة المعنى وسموّ مستواه عن المستوى العامّ، مضافاً إلى رقّة التعبير وجزالة الأداء, كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ , إذ لا يخفى لُطف هذا التعبير الرقيق عن مفهوم هو من أدقّ 
 
المفاهيم الإسلامية في الأمر بين الأمرين (لا جبْر ولا تفويض)، ومن ثمّ خفيَ على غالبية الناس إدراك حقيقته الأصلية، من عدا أولئك الراسخين في العِلم، الَّذين استسهلوا الصعاب بفضْل جهودهم في سبيل اكتساب المعالي. وأمّا عوامل الإبهام المحوجة إلى التفسير، فتعود إلى جهات أُخَر، منها: غرابة الكلمة عن المألوف العامّ, نظراً لاختصاص استعمالها ببعض القبائل دون بعض، فجاء القرآن ليوحِّد اللغة باستعمال جميع لغات العرب، من ذلك: (صَلداً), بمعنى (نقيّاً) في لُغة هذَيل... ومنها: إشارات عابرة جاءت في عَرْض الكلام، بحيث يحتاج فهْمها إلى درس عادات ومراجعة تاريخ, كالنسيء في سورة التوبة ، ومنها: تعابير عامّة صالحة لمعانٍ لا يُعرَف المقصود منها إلاّ بمراجعة ذوي الاختصاص, كالدابَّة من سورة النمل: ﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ ، ومنها: استعارات بعيدة الأغوار، يحتاج البلوغ إليها إلى سبْرٍ وتعمّق كثير, كقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ .

هذه نماذج من عوامل الإبهام المحوجة إلى تفسير كاشف، وقد تبيَّن أنّها تختلف تماماً عن عوامل التشابه المستدعية لتأويل مقبول. فلا يشتبه مورد أحدهما بالآخر، وإن كانا يشتركان في خفاء المراد بالنظر إلى ذات اللفظ.
 
 


المصادر والمراجع


1- القرآن الكريم.
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص91, ج3، ص243.
3- الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص251، 443.
4- الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، ج1، ص9-10.
5- السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ج2، ص5-7، 13-21، 30-32.
6- الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص52, ج2، ص102-104، 314-341, ج3، ص20-23، 29، 32-42، 58-62, ج8، ص236-243, ج13، ص301-302, ج19، ص86-88.
7- الطباطبائي، القرآن في الإسلام، ص43، 46، 48.
8- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج2، ص68-71، 75-76.
9- الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج2، ص215-219، 223-225.
10- المجلسي، بحار الأنوار، ج90، باب128، خطبة رسالة النعماني، ص3-4.
11- الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج1، باب28، ح39، ص261.
12- معرفة، التمهيد في علوم القرآن، ج3، ص71-368.

 

2020-11-23 | 993 قراءة